يمثل قطار الرابعة إلا الربع بالنسبة لأمجد الصحفى العشرينى عالما بأكمله، فمن هنا ينطلق كل يوم خارج رحم قريته بمحافظة بنى سويف إلى القاهرة. مع انطلاق صفارة المحطة، يشعر أمجد بشىء من البرودة أو القشعريرة. وقد تعود هذا الشعور منذ شهور حين بدأ يتردد لأول مرة على العاصمة سعيا وراء فرصة أفضل للعمل، فلم يكن انطباعه الأول عن المدينة إيجابيا. فقد شعر أمجد بالضآلة وسط مفردات هذا الكون الجديد: عمارات شاهقة متلاصقة، حافلات مكدسة، شوارع تتلوى كالثعابين لا يعرف كيف يسير فى دروبها وكثيرا ما يتوه فيها، زحام رهيب متجدد يذكره بمولد سيدى القناوى! كل هذا الصخب كان يشكل ضغطا عصبيا على هذا القادم لتوه من قريته الصعيدية المتوارية خلف جبل ضخم. يقول أمجد: «سنة أولى قاهرة هى عنق الزجاجة، مجرد الرؤية تبدو لى ضبابية ومبهمة وغامضة... كأننى أسير إلى المجهول. أتلمس طريقى فى حذر وكأن ريحا قادمة. أشعر وكأننى بصدد فك طلاسم هذه المدينة الغريبة. «يعترف أمجد أنه يشعر بفارق كبير يسعى لتذويبه كى يندمج فى العاصمة». مثلا لا أعرف كيف أختار ملابسى لتكون غير مثيرة للسخرية بالنسبة للقاهريين. أسير بجوار الحائط، أنتقى الألوان الداكنة والسادة التى لا توجد بها أى نقوش. كثيرا ما أنصت للمتكلمين لا لشىء إلا لكى تعتاد أذنى على سماع لهجة أهل «كايرو» كى أتمكن من التحدث بها. أجد صعوبة فى حفظ عناوين الشوارع التى أتردد عليها، لكن لا مفر من ذلك فميزانيتى لا تتحمل أعباء تنقلات إضافية. أبدو فى صراع مع الزمن كى أثبت للجميع ولنفسى أننى لا أقل عن سكان العاصمة» هذا الشعور بالدونية الذى يلازم الكثير من النازحين إلى أقاليم مصر ما هو إلا نتيجة للنبرة المتعالية التى يخاطبهم بها أهل المدينة، ناهيك عن النكت الخاصة بالصعايدة. لذا يسعى أمجد لعبور الحاجز الثقافى والتحرر من الصورة النمطية السائدة عن سكان قبلى. تشير الإحصائيات إلى أن نسبة التزايد الطبيعى بالقاهرة تصل لأكثر من 2.6 % ويرجع ذلك أساسا إلى الهجرة الريفية نحوها «80% من المهاجرين الريفيين يتوجهون نحو القاهرة، كما أن 40% من سكان القاهرة هم أصلا من الأرياف»، إضافة إلى هجرة المصريين المقيمين بالخارج الذين يقصدون العاصمة القاهرة بدل العودة إلى قراهم الأصلية مما أدى إلى تضاعف سكان العاصمة. وفى الواقع تعتبر سنة أولى قاهرة هى المعبر الذى يسلكه هؤلاء كى ينتقلوا من العالم القروى التقليدى إلى المجتمع القاهرى الأكثر تعقيدا، فقد تحدد هذه السنة المصيرية ملامح الحلم القاهرى. ولو درسنا خلفية الكثير من المثقفين المصريين وخصوصا الثوريين، سنلاحظ أنهم عاشوا لحظات انتقال مثل هذه اللحظات. يقول الدكتور عبدالوهاب المسيرى فى كتابه «رحلتى الفكرية» (دار الشروق، 2006 ): «أعتقد أن هذا الجانب فى خلفيتى الثقافية هو ما جعلنى لا أنبهر بالمجتمع الأمريكى، فنقطتى المرجعية كانت هى دائما هذا المجتمع الزراعى التراحمى. وذلك لأننى عشت هذا الانتقال بكل جوانبه بل وتدعم إحساسى به عندما انتقلت من دمنهور إلى الإسكندرية إلى نيويورك أى انتقلت من مجتمعات أقل تعاقدية إلى مجتمعات أكثر تعاقدية إلى أن وصلت إلى مانهاتن قمة التعاقد، أقول بسبب هذا كله أصبحت ملاحظا قويا لعلاقات التعاقد والتراحم وأصبح التناقض بينهما إحدى أهم المقولات الأساسية فى خريطتى الإدراكية». الصبغة التراحمية للمجتمع الزراعى هو ما يضفى أحيانا على سنة أولى عاصمة هذا المزيج من الشعور بالغربة والمرارة، وإن كان يبث روح التحدى فى النازحين. كسر الجليد يقول مجدى السائق السوهاجى الثلاثينى: «أشعر فى سنة أولى قاهرة، كأننى متلطم!» ويروى كيف كان كالطفل الذى طالبه والداه فجأة أن يتصرف بنضوج، وذلك فور قدومه من قرية درنكة حيث يعرف الجميع أصول كل أسرة على حدة. «الكل هناك يحتضنك فى كل شىء: المشاكل، المصالح، المشاعر إلخ.. بعكس هنا، الكل يجب أن يعتمد على ذاته لأن للمصلحة ثمن. هذا الشعور يكسر شيئا بداخل الإنسان وربما يتكون لديه طبقة جليدية إزاء هذا المجتمع القاهرى». فالمجتمع التقليدى يحدد كل شىء ويتدخل فى كل شىء، ورغم أنه يحمى الإنسان من التقاليع وهجمة الحداثة ويساعده على تأكيد هويته فى مواجهة عالم رمادى وليس شخصيا لكنه قد يشكل عبئا على المرء لأنه يكون دائما بصدد صراع داخلى فيعقد مقارنات لا تنتهى بين الأنساق الحضارية المختلفة. لذا تمثل سنة أولى قاهرة الصدمة الكبرى، فهى أول احتكاك مع أضواء المدينة، على حد تعبير الدكتورة نادية رضوان أستاذة علم الاجتماع بجامعة بورسعيد. «كل شىء يصفعك فى القاهرة فور وصولك»، هكذا يعلق طارق حارس الأمن العشرينى القادم من محافظة الشرقية، شارحا: «بدءا من الشارع، ملابس الناس وبخاصة النساء، علاقات الجنسين». النسق القيمى يختلف تماما وذلك يبدو جليا فى الشارع منذ الوهلة أولى، إذ يستشعر الفرد الأنانية والفردية فى كل شىء من حوله: السيارات تهرول بشكل هستيرى وكأنه لا يوجد مشاة، الكل يسعى لأن تكون سيارته فى المقدمة وغالبا بدون وجه حق مستخدما كل الأسلحة بدءا من الكلاكسات مرورا بالسباب وحتى استعراض العضلات. فأثناء ركوبه للمواصلات العامة، يؤرق طارق أن يجلس بينما يرى سيدة مسنة أو شيخ عجوز واقفا، وإذا حدث وأجلسهم يبدو مغفلا أو ربما اتهمه أحد ركاب الأتوبيس بالنفاق الاجتماعى. تساؤلات عدة تدور برأسه، هل يجب أن يتخلى عن نسقه القيمى حتى يتأقلم مع المحيط ؟ «كانت الطامة الكبرى عندما رأيت كورنيش القاهرة لأول مرة. كيف يمكن لهذا الهيام والغرام أن يتم فى الشارع على مسمع ومرأى البشر المارين. ولأننى خريج كلية أصول دين وشريعة أصبحت أشك أن القاهرة تدين من الأساس بالإسلام. وعندما تبرمت اعترض البعض تحت مسمى احترام الحرية الشخصية! لذا قررت أن أعيش على الهامش فى العاصمة مثل زبد البحر وأن أعطل حواسى بشكل مؤقت فلا أرى ولا أسمع ولا أتكلم. وحتى لا أشعر بالغربة قررت أن أقطن مع أفراد من قريتى على الأقل يعين بعضنا بعضا فى السنة الأولى للتمسك بعاداتنا حتى لا نضيع فى ظلمات القاهرة. لكن خلال السنة الأولى تأكدت أننى لن أتزوج أبدا من القاهريات، فغير وارد أن تكون زوجتى واحدة من بنات الكورنيش اللاتى أقمن مائة علاقة قبل الزواج»! يخفى محمود شاب فى العشرين، لهجته الشرقاوية حتى لا يلدغ من الجحر مرتين. فبحكم عمله فى أحد الجراجات، استشعر أحد النصابين الذى لمح كلمة «أيجه» بدلا من «جاء» أنه جديد فى العاصمة، «طلب منى باقى مائة جنيه وعندما أعطيته إياها، تركنى وفر هاربا بعد أن أعطانى درسا فى عدم الثقة فى الناس، فلا وجود للنصابين فى قريتنا تقريبا بحكم القانون العرفى». لا يتوقف الأمر عند الصدمة الاجتماعية والحضارية بل هناك أيضا الصدمة الاقتصادية الرهيبة، فأول شىء قد يصطدم به القادم للعاصمة هو إعادة هيكلة ميزانية: «ميزانية النقل والمواصلات على سبيل المثال مرهقة للغاية، فالمدينة كبيرة وقد أحتاج يوميا لنحو خمسة جنيهات على الأقل كى أذهب من بيتى بأرض اللواء إلى عملى فى حى مصر الجديدة». ويضيف محمود: «الطعام غالى جدا فى العاصمة وأقل جودة من الطعام بالريف، بل إن طعم الماء غريب. وتطلب الأمر بعض الوقت حتى أستسيغه». فى البحر أم الترعة؟ ورغم صعوبة إيجاد سكن، فإن كثيرين من النازحين وجدوا صيغة لحلها، فهم يقطنون فى بيوت مشتركة على أساس سداد الإيجار بشكل جماعى وغالبا ما يبحثون عن سكن فى العشوائيات أو المدن الجديدة لانخفاض الأجور نسبيا، فهذه الطريقة على حد تعبير رضوان هى الوسيلة الوحيدة لمواجهة غول العاصمة، بل تكوين «جيتو» للتأقلم. يقول الكاتب الصحفى حمدى رزق والذى يستعد حاليا لكتابة قصة غربته فى القاهرة بشكل أدبى: «ما زالت ذكريات أول سنة غربة بعد قدومى من منوف عالقة فى ذاكرتى. فالغربة فى هذه السنة تكون مركبة وعلى أصعدة كثيرة اجتماعية واقتصادية وحضارية. فأنت فى أول سنة تكون وسط ناس كثيرة لا تعرفك، مجتمع من الغرباء، بلا أهل ولا أصدقاء. فلو جاز التشبيه يمكننا أن نعتبر العيش فى القرية بمثابة السباحة فى الترعة، أما العيش فى القاهرة فيشبه السباحة فى البحر التى تتطلب مهارات خاصة. إما إيجاد صيغة لاقتحام الغربة أو الانعزال والتقوقع داخل هذه الغربة». ويزيد الأمر سوءا كما يوضح الدكتور أحمد حامد، خبير التخطيط العمرانى، تخطيط القاهرة نفسه «يبدو تخطيط القاهرة مثل كثير من المدن الكبرى فى العالم كلندن وميلانو وريو دى جانيرو صادما لساكن الريف، فرغم عشوائية الريف يشعر ساكنه أن الفراغ الممتد هو ملك خاص له يحميه نظام قبلى رصين يشعره بالدفء، على عكس المدينة حيث كل شىء يوجد خلف جدار حتى الحدائق العامة مسورة تحرسها قبضة بوليسية صارمة تملى على الأفراد ما يليق وما لا يليق. فهذا النسق فى التخطيط يؤثر على طابع العلاقات الاجتماعية ويعزز شعور القروى بالاغتراب». وبخلاف من اختار العزلة أو الصمت الضمنى تجاه أنساق لا يقبلها فهناك فئة أخرى تقلب الأنساق رأسا على عقب. عبير طالبة من المنوفية ذات الثامن عشر ربيعا بدأت مع أول احتكاك لها بالقاهرة تغير طريقها. ففى العاصمة شعرت بحريتها من سيطرة الأهل، لم تعد تصرفاتها تحت ميكروسكوب كما كانت فى القرية. بهرتها الأضواء ونمط حياة النساء وقطعت على نفسها عهدا بأن تصبح مثل هؤلاء. بدأت تؤمن بالمثل القائل إذا كنت فى روما فافعل مثل الرومان. وفى منتصف العام الدراسى كانت قد تحررت بالفعل من ملابسها الفضفاضة ذات الطابع القروى، بل خلعت حجابها وقصرت تنورتها شيئا فشيئا حتى تلتحق بالعمل فى جريدة فنية. وتروى: « لقد كانت الصدمة الأولى بمثابة الصحوة بعد سنوات طويلة من الغفلة، فقد تشكلت لدى فى هذه السنة أجندة أولويات جديدة وكأننى ولدت من جديد»، على ما يبدو فهى تعرف الآن طريقها أفضل من أى وقت مضى.