من بين الإخفاقات الثانوية للسياسة الخارجية فى عهد إدارة أوباما، يبرز تدمير البيت الأبيض لمسار دبلوماسية الشرق الأوسط فى الأسابيع الأخيرة. فلا ينبغى لرئيس أمريكى أن يوظف إمكاناته الشخصية لبدء محادثات بين القيادات الإسرائيلية والفلسطينية، عندما تكون هذه المحادثات فى طريقها إلى الفشل بعد أسابيع بسبب قضية ظلت جامدة فى مكانها منذ فترة طويلة، وهى قضية بناء المستوطنات الإسرائيلية فى الضفة الغربية. غير أن ذلك بالضبط هو ما فعله الرئيس باراك أوباما، مما سمح لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بازدراء طلبه الشخصى بتمديد فترة العشرة أشهر المتفق عليها لوقف البناء فى الضفة الغربية، وذلك لمصلحة المفاوضات. فلا يمكن أن تولد دولة فلسطين بينما تتآكل الأرض التى ستقام عليها. وقد حل الآن اليأس الواضح من المساومات الأمريكية الإسرائيلية بشأن التنازلات والضمانات والمداهنات والمعدات العسكرية، والعروض الأخرى التى قد تقدمها الولاياتالمتحدة مقابل تمديد وقف البناء 60 يوما أخرى. الملاحظة الإيجابية الوحيدة هى أنه لا يبدو أن أحدا يريد أن تنتهى العملية الدبلوماسية تماما؛ فالدول العربية منحت الولاياتالمتحدة فرصة حتى آخر نوفمبر للتفاوض، والفلسطينيون يضغطون من أجل توقف قصير وليس لتوقف تام؛ وتتطلع إسرائيل إلى ميزة تكتيكية. وإذا ما كانت المحادثات ستستأنف وأنا أتوقع ذلك فهناك عشرة مؤشرات رئيسية يجب أن تأخذ فى الاعتبار: على الولاياتالمتحدة فى سعيها لإعادة إسرائيل إلى طاولة المفاوضات، ألا تخلق لنفسها مشكلة معاكسة عبر تخطى الخطوط الحمراء الفلسطينية. فمن شأن التعهد الأمريكى بدعم وجود إسرائيلى آمن وطويل المدى فى منطقة وادى الأردن الاستراتيجية وهى فكرة أعلنت أن يؤدى إلى ذلك. وكما قال مسئول أوروبى كبير: «يمكنك أن تكون خلاَّقا بشأن الأمن بشرط ألا يستيقظ الفلسطينيون فى اليوم التالى لقيام دولتهم ليجدوا أنهم مازالوا محتلين». إذا تعنت الفلسطينيون واختاروا الحل المنفرد، سوف يضيفون خطأ كبيرا آخر إلى فصل طويل من الأخطاء الاستراتيجية. فالتخلى عن المحادثات لمصلحة البحث عن اعتراف من المنظمات الدولية مثل الأممالمتحدة بدولة فلسطينية مستقلة سوف يضع فلسطين المنتظرة على طريق مسدود. ومثل هذا الاعتراف، حتى وإن كان يمكن الحصول عليه، لن يفتح الطرق، أو يوصل المياه، ولن ينشئ موانئ أو مطارات، أو يدعم الأمن، كما أنه لن يزيل القوات الإسرائيلية أو يحول الفلسطينيين من مستضعفين إلى ذوى سيادة. إنه «الحل» الذى لا يحل شيئا. إن ضغط نتنياهو للحصول على اعتراف مسبق من الفلسطينيين بإسرائيل «كدولة يهودية» ليس بداية صحيحة. فقد اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل، وهى ليست بصدد الدخول فى طبيعة هذه الدولة. وفى الواقع فإن مناورة «الدولة اليهودية» الافتتاحية، محاولة لتسوية قضية اللاجئين الفلسطينيين قبيل بحث مسائل الوضع النهائى الأخرى، كمسألة الحدود. وذلك لا يمكن أن ينجح. وقال محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية إن التوصل لاتفاق سلام من شأنه تسوية جميع «المطالب التاريخية» فيما يرمز إلى اللاجئين، وهو ما يكفى الآن. يقف نتنياهو الآن سياسيا فى الوسط الإسرائيلى، وهو الآن أكثر يمينا مما كان عليه قبل خمس سنوات. وهناك تصور إسرائيلى قوى قائم: لقد أزلنا المستوطنات من غزة، وانظر إلى ما جنيناه صورايخ حماس! وهذا هو المنظار الذى ينظرون من خلاله فيما يتعلق بالانسحاب من الضفة الغربية. وبإمكانك أن تختلف مع هذه الرؤية، لكنها قائمة. لذلك فعلى الفلسطينيين التعامل معها. حيث إن تعطشهم للسيادة لا يماثله فى الشدة إلا إصرار إسرائيل على الأمن. وهنا يكمن مفصل السلام. هناك وقائع على الأرض وعملية سياسية، وعلى الأولى أن تعزز الثانية. والوقائع فى الضفة الغربية مشجعة للغاية. فقد صار الفلسطينيون جادون بشأن قواتهم الأمنية، وأدركوا أنه لا يمكن أن توجد دولة من دون حكم القانون، أو بميليشيات متعددة. وعلى إسرائيل أن تبادر بشكل أكبر إلى توسيع المجالات التى يمكن أن تعمل فيها قوات الأمن الفلسطينية، بما يسمح بحرية الحركة وتسهيل الاستثمار، وهذا هو السبيل لدعم فلسطين التى تريدها إسرائيل. لا تميل الدول العربية الاستبدادية إلى اعتبار الصراع العربى الإسرائيلى إلهاء مفيدا لتخفيف الضغوط الداخلية، وإنما تشعر بالقلق من أن يغذى «جبهة المقاومة» المدعومة من إيران، وتهدد الاستقرار. وهذه الدول لن تتخذ الخطوة الأولى، لكنها ستدعم أى سلام يعيد إسرائيل إلى حدودها فى 1967 بموجب تبادلات متفق عليها للأراضى. هناك فتيل يشتعل. فجميع الجهود الفلسطينية فى الضفة الغربية مهيأة لإقامة دولة فى غضون عام. وقد طرح أوباما هدفا مماثلا وأقرته القوى الدولية الكبرى. فإذا بدا التقدم الهائل الذى تم إحرازه فى بناء المؤسسات الفلسطينية بلا جدوى، ربما يتعاظم الغضب مرة أخرى ويصل إلى عنف يهزم الذات. إذا حل النصف الثانى من العام المقبل وكان هناك ما يكفى من قوة الدفع لاعتبار أن قطار الدولة الفلسطينية فى طريقه للقيام من المحطة، فسوف يلحق به غالبية الفلسطينيين فى غزة. وعندها ستصبح عملية السلام معضلة سياسية بالنسبة لحماس. ويمكن للفلسطينيين حل خلافاتهم الداخلية بشرط ألا يؤدى قصر النظر الإسرائيلى إلى تجريد المعتدلين من النفوذ. لن تكون هناك دولة فلسطينية دون القدسالشرقية عاصمة، أما كيفية تحديد «القدسالشرقية» فتبقى أمرا محل نظر. وذلك يجب أن يعلن. هذه هى آخر وأفضل فرصة للسلام فى المستقبل المنظور. وهى تتطلب شجاعة هائلة، وقدرا من المخاطرة على كل من الجانبين. لذلك فربما كان من المؤكد أنها ستفشل.