الباحثة منى زكريا معمارية تخصصت فى ترميم الآثار الإسلامية. قامت بتطوير منطقة مجمع الأديان بمصر القديمة وأشرفت على تنفيذ مشروع قرية الفسطاط للخزف. مهمومة بالعاصمة ولها عدة مؤلفات عن عمارة القاهرة من أبرزها «بيوت وقصور من القاهرة». تقول منى "القاهرة مدينة غير إنسانية. لا يمكنك أن تسير على رجليك بشكل محترم أو تركب مواصلات عامة بشكل محترم. أى تخطيط هذا الذى يصمم شارع الهرم من أوله لآخره دون مكان لعبور المشاة. لو مواطن عنده 70 سنة وليس لديه سيارة يعمل إيه؟ يروح يموت! أين التفكير المتعلق بالإنسان، وفى أى بند؟ كل التخطيط مركز على السيارات وكيف تتحرك. لنجرب القاهرة يوما واحد بدون سيارات ونرى النتيجة". وفى الوقت نفسه نستمر فى خنق المساحات الخضراء، حتى انفصلت المدينة عن الطبيعة. طفل القاهرة لا يعلم شيئا عن الزرع. القاهرة مدينة لا تتنفس بمعنى الكلمة. لا يوجد أكسجين.. نسينا هذه المعادلة الكيميائية البسيطة عن علاقة ثانى أكسيد الكربون بالتنفس. باختصار القاهرة تحولت إلى علبة غازات. تتذكر منى زكريا أن المستعمر جاء فى بداية القرن الماضى ليبنى شكلا معماريا أوروبيا، يتسم بطابع عربى، مثل مصر الجديدة، أو بطابع غربى تماما مثل وسط البلد، أما الآن فهناك «عمارة ممسوخة». المصريون أنفسهم يفضلون الشكل المستورد. لم يعد عندنا عمارة مصرية وإنما عمارة ممسوخة مرة من أوروبا ومرة من الخليج. صورة عن صورة عن صورة. لماذا؟ لأن من يقود حركة العمران فى مصر من التصميم حتى التنفيذ هو المقاول أيا كان ذوقه. لا يوجد معماريون يبنون. أى حد يفكر دوره يهمش. مهنة المعمارى تدهورت ولا توجد صناعة وراءها. وكل محافظ يريد زيادة دخل المحافظة، ولا يعرف شيئا عن تاريخها، فيبحث عن زيادة الموارد بوضع إعلانات وواجهات محال وتشويه. تعالوا نقيم هذا الجيل. هل ظهر مبنى جميل فى السنوات الأخيرة؟ كلها موضة ممسوخة من دول البترول. القاهرة تعيش بثقافة الفقر بمعنى غياب التأصيل فى كل شىء. فى الخامات والطوب والشكل. لكن القاهرة، فى النهاية، مدينة تتمتع بقوتها الخاصة، فى رأى منى زكريا، ونقطة القوة الوحيدة أنها «تعيش» رغم أنف كل المفاهيم والمعايير المهنية التى تؤكد استحالة ذلك، «لكنها تعيش، ولها سحرها». رغم كل ما أقوله عن القاهرة فأنا أعشقها. القاهرة مدينة بها كل شىء كل نظريات العمارة، كل تاريخ العمارة فى نفس اللحظة وفى نفس المكان، هذه أعجوبة. لكن كيف نعاملها نحن؟ لا بنحبها ولا نحترمها ولا لها قيمة لدينا. هناك اليوم شوارع فى المهندسين لا تتعدى 15 مترا، وبرج على اليمين وبرج على الشمال. أنا لست ضد الأبراج، نيويورك كلها أبراج، لكن هناك معايير. هناك أيضا مشكلة فى التخطيط. كل التجمعات السكنية أو الكومباوند التى خرجت من القاهرة إلى المدن المحيطة، تعود للعاصمة عن طريق المحاور. هى مدن محملة على القاهرة لأنها عبارة عن ملحقات للقاهرة وليست مدن جديدة بمعنى الكلمة. 95% من العاملين بالمجمع الإدارى فى 6 أكتوبر مثلا يأتون عن طريق المحاور. الحكومة تتباهى ببناء كم مليون مسكن فى حى الأشجار والتجمع الخامس وغيره وبنت مناطق سكنية على طريق إسكندرية، أصبح نصف الطريق كأنى فى شارع سليمان باشا، زحام خانق. ولا توجد وسائل ربط بين هذه المدن. لو لم أمتلك سيارة، أعمل إيه؟ تضيف منى زكريا مثالا آخر لسوء التخطيط، هو ما حدث على طريق القاهرةالإسماعيلية. الطريق كله 100 كيلو متر، فى منتصفه مدينة صناعية هى العاشر، ثم نبنى مدينتى العبور والشروق فى بدايته من الغرب. طيب بعد كام سنة كيف سيكون شكله؟ هايكبر ويتوسع، طيب أين الطرق الأخرى اللى «تشيل معه». نحن لا ننظر إلا تحت رجلينا. لابد أن نرى كيف تعمل العواصم العالمية ونطبق ذلك على القاهرة وأول شىء هو المواصلات العامة. الإنسان قبل العربية. عندنا مشكلة أساسية: وزارة الطرق بتعمل لوحدها، والإسكان والتخطيط لوحدها والصناعة لوحدها والمحافظون لوحدهم. كل واحد عنده خطة منفصلة عن الآخر. مكان المستشفى لازم يدرس، مكان المدرسة، الخدمات العامة، هذه شبكة واحدة. لكن أين التنسيق؟ كأن ما يحكمنا فكر دويلات منفصلة لا توجد وجهة نظر شاملة. لازم اشتغل على مستويات مختلفة. أولا أمد الخدمات لهذه المناطق الجديدة مثلما بدأت المعادى زمان. منطقة بين الصحراء والنيل. جاءت شركة انجليزية وقسمت الأراضى والشوارع. تتحفظ منى زكريا على طريقة التعامل مع ما تصفه بأنها «عشوائية»، بهدمها ثم إعادة تخطيط المنطقة. تتساءل: لماذا يهدمون دون البحث عن حلول ممكنة؟ الدولة فى الأول قالت ما فيش حاجة اسمها مناطق عشوائية وبعد سنين غيرت رأيها وأنشأت هيئة لتطوير المناطق العشوائية والآن تقول نزيل المناطق العشوائية. يعنى ترمى الغلابة؟ ومين يخدم الأغنياء. المناطق العشوائية هى عشوائية لكن فيها بنى آدم. الهيكل من أوله لآخره مغيب فيه احتياج المواطن. عايز تعمل مدينة جديدة، ناقش المواطن حتى لو نصف غبى، استشيره ولكن ليس بنظرة فوقية، لأن المواطن يضيف معلومة حتى لو عن حبل غسيل. لابد من احترام كل ما يقول. مدينة نابولى الأيطالية بتنشر الغسيل فى البلكونات، وأصبح جزء من معالمها يطبع على الكروت السياحية. لابد أن نكون فخورين بمدينتنا وتاريخها، من يسكن فى حارة أو فى عمارة. الناس كلها لازم تناقش. كلنا مسئولون عن الحل، لأن القاهرة لا يملكها فرد أو حزب، القاهرة ستعيش مهما تغيرت الأسماء والأنظمة.