طالما بقى ما يفرقنا فى مصر أكثر مما يجمعنا فإن مناعة الوطن تصبح فى خطر دائم، ومن ثم يظل باب الفتنة مفتوحا على مصراعيه، لا يجدى فى إغلاقه تحذير سياسى أو بيان يصدر عن شيخ الأزهر ورأس الكنيسة. (1) حينما تحدثت من قبل عن «المصريين الجدد» فإننى ركزت على التشوهات التى أصابت الوجدان العام خلال العقود الأربعة الأخيرة على الأقل (التى أعقبت سنوات الانفتاح وانتقال مصر من حمى المشروع إلى تيه اللامشروع». لم أشر آنذاك إلى ما أصاب روح مصر من تشوهات، أبرزتها الأحداث الطائفية وما استصحبها من ممارسات، كان أسوؤها ما لاح فى الأفق خلال الأسابيع الأخيرة من أفعال وردود أفعال، أعقبت الكلام الجارح الذى خرج إلى العلن على لسان أحد قيادات الكنيسة الأرثوذكسية. وكانت الملابسات التى أحاطت بإطلاق هذا الكلام والأصداء التى ترتبت عليه كاشفة عما أصاب «الروح» من تراجع محزن. يلمس المرء هذا التراجع حين يقارن ما جرى قبل ثمانين عاما بين شيخ معهد الإسكندرية الدينى الشيخ عبدالمجيد اللبان والأنبا يؤانس بطريرك الأقباط الأرثوذكسى. إذ تبادل الرجلان رسالتين بخصوص حادث قريب الشبه بما مررنا به، احتفظ بصورتين ضوئيتين لهما. تستحقان القراءة والتدبر هذه الأيام. وقتذاك فى شهر أبريل عام 1930 صدر عن بعض المسيحيين فى الإسكندرية كلام أهان الإسلام وأثار غضب المسلمين، فكتب الشيخ اللبان رسالة فى يوم 17 منه إلى «حضرة صاحب الغبطة الحبر الأكبر الأنبا يؤانس «بطريارك» الأقباط بمصر». ذكر فيها: «إنه من دواعى الأسف الشديد لدى أن أرى اليوم فريقا متهوسا ممن ترعاه الكنيسة المرقسية يعمل على هدم ما بناه العقلاء، ويدبر الحملات الطائشة ضد الإسلام دين الدولة الرسمى، معرضا بذلك قضية الوطن لأعظم الأخطار. وأكبر ما أخشاه أن يقابل المسلمون عمل هؤلاء المفترين بمثله. بل لا أنكر عليك أن من بينهم من حدثته نفسه فعلا بذلك.. ولولا ما تعلمه من شدة معارضتى لنزل إلى ميدان العمل كثير ممن جاشت نفوسهم وثارت عواطفهم غير مكترثين بالعواقب. والرأى عندى أن خير الطرق لإطفاء الفتنة وإعادة الصفاء إلى النفوس أن تقوموا من جهتكم بما يفهم هؤلاء المعتدين وغيرهم أن فى عملهم خروجا عن حدود اللياقة وتعاليم المسيح عليه السلام، التى تحرم الافتراء والكذب خصوصا على الأديان المقدسة. بعد يومين اثنين فى 19 أبريل عام 1930 رد الأنبا يؤانس بخطاب كتبه بخط يده، يشهد بروح تلك الأيام، ويستحق أن يقرأ عدة مرات. إذ شكره عما عبر به عن ود وحسن ظن، وذكر أنه أحرص الناس على الوحدة الوطنية، ثم قال إنه: إذا وجد فرد أو أفراد يعملون لهدم هذه الوحدة المقدسة بالطعن فى الدين الإسلامى الذى هو دين إخواننا ومواطنينا الكرام وتقوم الأدلة على إثبات جرمهم فإنهم يكونون من شر الجناة على الوطن. وأنا أول من يستنكر عملهم ويستفظع جريمتهم بلا جدال. فإن الدين المسيحى لا يجيز هذا الاعتداء على الإطلاق. بل هو بالعكس يحض على محبة الأعداء فكيف بالمسلمين وهم إخواننا فى الوطن وشركاؤنا فى سراء الحياة وضرائها وتجب علينا محبتهم واحترامهم وإجلال دينهم. ثم قال: على أنه قد يهم فضيلتك أن تعرف أن الشخصين اللذين اتهما أخيرا بالطعن فى الدين الإسلامى وباتا رهن المحاكمة ليسا من الأقباط الأرثوذكس كما ظننت. وليس معنى ذلك أن أى طائفة أخرى من الطوائف المسيحية تبيح الطعن فى الإسلام. فإن الدين الذى ندين به هو بعينه الذى تدين به تلك الطوائف. وهو يأمرها كما يأمرنا بالمحبة والسلام وينهاها عن كل ما يخالفها ولاسيما إذا كان جارحا لأقدس العواطف وأعنى بها العاطفة الدينية. ختم الأنباء يؤانس رده بقوله: كن على ثقة يا فضيلة الأستاذ أنه لا يجرؤ على الطعن فى الإسلام وهدم الوحدة الوطنية من الأقباط الأرثوذكس الذين هم تحت رئاستنا ومن غيرهم من أبناء الطوائف الأخرى إلا أحد اثنين: إما مدخول فى عقله لا يقدر عاقبة فعله، أو مدسوس على المسيحيين محرض من فئة مغرضة لإثارة فتنة والقانون لكليهما بالمرصاد. وإنما كتبت لك هذا لتكون على يقين لا يخالطه ريب من أنى أستهجن كل الاستهجان الإقدام على الطعن فى الدين الإسلامى الكريم. وأنا عالم أن جميع أبنائى الأقباط الأرثوذكس يقرون على كل كلمة مما فى كتابى هذا. (2) أدرى أن الوقائع مختلفة بصورة نسبية، لأن اللذين أساءا إلى الإسلام لم يكونا من الأرثوذكس. لكننا يجب أن نعترف بأن اللغة والروح تغيرتا أيضا. فالأنبا يؤانس لم يتحدث فى خطابه بلغة الشاكى أو المضطهد، ولكنه اعتبر أن الذين يطعنون فى الإسلام «من شر الجناة على الوطن»، وأن من يجرؤ على ذلك مهددا الوحدة الوطنية من الأرثوذكس أو من غيرهم لا يكون «إلا واحدا من اثنين: إما مدخول فى عقله لا يقدر عاقبة فعله، أو مدسوس على المسيحيين محرض من فئة مغرضة لإثارة الفتنة». ما الذى جرى حتى تغيرت اللغة والروح بحيث إن ما استبعده واستهوله الأنبا يؤانس فى زمانه وقع فى هذا الزمان، ووجد من يبرره ويتأبى على الاعتذار عنه؟ ردى على السؤال أن المجتمع المصرى خلال تلك العقود الثمانية فقد مناعته بصورة تدريجية، واقترن فقدان المناعة بغياب البوصلة الهادية. وهذه الخلفية تكمن وراء ما ذكرته من أن ما يفرقنا فى مصر أصبح أكثر مما يجمعنا. وعنيت بذلك أن المجتمع اختلف مع السلطة. وأن فئات المجتمع، المسلمون منهم والأقباط شاع بينهم الفراق والمرارات، وأن النخب التى طفت على السطح لم تعد معبرة عن ضمير الأمة وتطلعاتها. وفى حين أن التحدى كان واضحا فى الثلاثينيات، وكان الاحتلال الإنجليزى مثلا يشكل التحدى الأكبر الذى اجتمعت عليه الأمة، وكان أعوان الاحتلال شرذمة مفضوحة لا وزن لها ولا اعتبار. وبعد مقارعة المحتل وخروجه جاءت ثورة يوليو لعام 1952، لتستدعى تحديات جديدة، قل فيها ما شئت، إلا أنك لا تستطيع أن تنكر أنها ظلت محل إجماع وطنى من جانب الأغلبية على الأقل فى مصر والعالم العربى. اختلف الأمر بصورة جذرية بعد رحيل الرئيس عبدالناصر، وهى المرحلة التى شهدت انقلابا تدريجيا على مبادئ ثورة يوليو، الأمر الذى كان إيذانا بالانتقال إلى مرحلة «التيه» التى اهتزت فيها ركائز الإجماع الوطنى. وحدث «الشتات» السياسى الذى سحب من رصيد مناعة المجتمع، وزرع بذور التفكك والفرقة فى مصر. وكانت النتيجة أن خلافاتنا تعمقت حول كل ما كان محل إجماع فى السابق. فقد اختلفنا حول العروبة وحول الإسلام، وحول العلاقات مع الولاياتالمتحدة وإسرائيل، بل اختلفنا أيضا حول الموقف من القضية الفلسطينية، وحول الفلسطينيين أنفسهم حيث أيد البعض استسلامهم كما أيدوا حصار مصر لقطاع غزة، وظهر بيننا من يعبئ الناس ضد العرب عامة وضد الفلسطينين خاصة، بدعوى أن «مصر أولا»، ومن يتصالح مع إسرائيل ويتخاصم مع سوريا، ومن يدافع عن الدور المصرى فى إطار الاستراتيجية الأمريكية، بحسبان أن ذلك مما يبعث على الاعتزاز ورفعة المقام، ومن يعتبر أن إيران هى العدو وليس إسرائيل، إلى آخر تلك الانقلابات التى لم تخطر على بال أحد يوما ما. (3) أسوأ ما أتت به تلك الانقلابات أنها فتحت الباب لتحدى ثوابت المجتمع، من الاستقلال الوطنى إلى الانتماء العربى، إلى احترام قيمة ودور الإسلام فى المجتمع. ومارست بعض عناصر النخب التى احتلت مواقع الصدارة فى مجالات الثقافة والإعلام جرأة غير عادية على الانتماء إلى الإسلام بوجه أخص، فأشاع هؤلاء دعايات خبيثة اعتبرت الإسلام نافيا للآخرين، ومن ثم كثفوا جهودهم التى استهدفت ملاحقته وإقصاءه من المجال العام، بزعم أن وجوده يمثل تهديدا للمجتمع المدنى، وإضرارا بمصالح غير المسلمين. وذهب البعض فى الجرأة إلى حد إصدار بيان طالب بإلغاء المادة الثانية من الدستور التى تنص على أن الإسلام دين الدولة الرسمى. وأكمل آخرون المهمة فواصلوا حملتهم التى رفعت سقف المطالب ودعت إلى تنقية مناهج التعليم مما له صلة بالإسلام، للحيلولة دون ما سموه «تديين» التعليم، كأن تعبير تلك المناهج عن هوية المجتمع وثقافته مسبة وعار يتعين الخلاص منهما. كان من الطبيعى أن ينفرط عقد المجتمع وتتفكك روابطه فى هذه الأجواء. وهو ما ساعد عليه مناخ احتكار السلطة وتغييب المشاركة السياسية. ذلك أن المشاركة التى توفرها الممارسة الديمقراطية تستدعى إرادة المواطنين فتستثير همتهم وتصهر إرادتهم فى عمل مشترك أو حلم مشترك، وفى غيبة المشاركة يتحول الوطن إلى جزر منفصلة، الأمر الذى يضعف مناعة المجتمع، ويصيب خلايا العافية فيه بالعطب والوهن، وحين يتحول الوطن إلى جزر منفصلة، فإن الدولة لا تفقد هيبتها فحسب، ولكن ذلك يصبح حافزا للفئات المختلفة لكى تبحث كل منها عن مظلة وملاذ، فمنها من يحتمى بالطائفة ومنها من ينخرط فى الجماعة ومنها من يلجأ إلى القبيلة أو يتعلق بأهداب جهات خارجية تسانده وتموله. (4) تنزيل هذا المنطق على الحالة التى نحن بصددها يفسر لنا لماذا أصبح احتكار السلطة وغياب الجهود أو الحلم المشترك فى السياق الذى نحن بصدده بمثابة البيئة الحاضنة لاعتبار الطائفة بديلا عن الوطن أو مقدمة عليه. ولماذا أصبحت مظاهرات الأقباط تتجه فى لحظات الاحتجاج والغضب إلى مقر البطريركية وليس إلى مجلس الشعب، ولماذا أدركت جموعهم أن تمثيل الكنيسة لهم أصفى وأصدق من تمثيل ذلك المجلس. إذا صح ذلك فإنه يشير إلى الثغرة التى حدثت فى جدار الوطن، واستصحبت تداعيات أخرى خطيرة، تمثلت فى الجرأة على تجريح عقيدة الأغلبية التى مهد لها خطاب المثقفين الذى سبقت الإشارة إليه. كما تمثلت فى التهوين من شأن تلك الأغلبية إلى حد التشكيك فى انتمائها، ومن ثم الانزلاق فى مجرى المفاصلة معها، إلى حد التلويح بهوية متميزة عنها، بديلة عن الهوية المشتركة والجامعة لكل أبناء الوطن. ورغم أن ما جرى لا يعبر بصراحة عن كل ذلك، ولكن أى مدقق فى المؤشرات الراهنة يلحظ أنها تستبطن فى طياتها بذور مشروع سياسى يحول الكنيسة إلى واجهة سياسية متجاوزا دورها كقيادة روحية، وهو ما يقلص رسالتها التاريخية بحيث ينقلها من الاسهام فى حراسة الوطن إلى الاكتفاء بحراسة الطائفة. هذه الإشارات ليست جديدة ولكننا نرصد نموها منذ أربعة عقود، بالتوازى مع بروز ضعف دور الدولة وتراجعها فى مختلف المجالات، وهو مناخ استثمرته جهات عدة داخلية وخارجية، لها مصلحة فى تفكيك مصر وتقزيمها ونحن لا نلوم تلك الجهات سواء تمثلت فى المحافظين الجدد بالولاياتالمتحدة، أو المخططين الإسرائيليين الذين تحدثوا منذ الخمسينيات عن ان الأقليات فى العالم العربى «حليف طبيعى لهم»، وأشاروا صراحة إلى الأقباط فى مصر إلى جانب أكراد العراق ودروز وأكراد سوريا وموارنة لبنان، فضلا عن جذب السودان. لا نلوم هؤلاء، لكننا نلوم أنفسنا إذا تجاهلنا كل ذلك أو هيأنا الظروف المواتية لكى يبلغوا مرادهم. الذى استجد علينا هو الجهر بالآراء التى كانت تتداول فى دوائر ضيقة ووراء أبواب مغلقة، ثم محاولة تبرير تلك الآراء والادعاء بسوء فهمها أو تحريفها، بما ينتهى بتمييعها والسكوت عليها أملا فى تجاوزها ونسيانها. وهذه المراهنة على ضعف الذاكرة أو على تخدير الناس وتحذيرهم من المساس بالخطوط الحمراء، لا تحل شيئا من المشكلة، ولكنها تسهم فى تعقيدها جراء التراكم والاختزان. بل لست أتردد فى القول بأن الذين يحذرون الناس أو يسعون إلى تخديرهم أصبحوا عبئا على المشكلة وليسوا جزءا من حلها. لأنهم يتجاهلون أصلها ويتعاملون مع فروعها وثمارها. ومازلت عند رأيى الذى أعلنته عبر منابر عدة من أن المشاركة هى خير دواء للمفاصلة، وهى السبيل الوحيد للخروج من ضيق الطائفة إلى فضاء الوطن ورحابته. وهو ما يشير بألف أصبع إلى جوهر أزمة مصر الحقيقية التى عجزنا عن حلها حتى الآن.