«كلها أيام وتلاقيها فى السوق مرمية ولا حد يبص عليها». يلمّ علاء أبو عبدالرءوف طرف جلابيته الواسعة، وهو يساعد حجاج البكرى ليحمل قفص الطماطم على كتفه. للقفص حدود ناشفة، توجع الفتى إذا لم يثبّت قطعة قماش على كتفه جيدا لتكون وسادة تحول بين عظم كتفه وحدّ القفص. علاء أبو عبدالرءوف مزارع من قرية كيمان المطاعنة مركز إسنا بالأقصر، «حيلتى 20 فدان بزرعهم طماطم، الفدان بيجيب حوالى 15 طن فى الموسم، بس السنة اللى فاتت كان الخير كتير والفدان جاب 20». تزرع مصر سنويا نحو نصف مليون فدان طماطم، حسب إحصائيات المركز القومى للتعبئة والإحصاء، تنتج نحو 9 ملايين و233 ألف طن.مئات المزارعين فى إسنا يزرعون أراضيهم بالطماطم، كمحصول شتوى، لكنهم يخافون عليها من البرودة الشديدة: «الصقعة (الصقيع) بتخليها تنشف، ولونها يصفرّ، تشوفها تحسها مسلوقة»، يقول ناصر. فى الشتاء، تتحول إسنا كلها إلى سوق كبيرة، يخرج حجاج البكرى من بيته فى الخامسة فجرا، تنقله سيارة نصف نقل مع العديد من زملائه فى المهنة إلى المطاعنة، وهناك يجد المئات أمثاله من قرى مختلفة، يقفون جميعا فى انتظار من يطلبهم للعمل: «صاحب الزرعة بياخدنا ف عربية، يودينا بس، وما لوش دعوة نرجع إزاى». ثلاث أسواق تنقسم السوق إلى فئات، قسم لبيع الأقفاص الفارغة اللازمة لتعبئة الطماطم، وآخر لتربيطات سيارات النقل الصغيرة والكبيرة، وثالث لحبال الربط، ورابع للعمالة. يفرح علاء أبو عبدالرءوف بارتفاع سعر الطماطم، فسعر «العِدّاية» (قفص يتسع لنحو 50 كيلو) يتضاعف، وأحيانا يقفز من 10 إلى 350 جنيها، لكن لسوء حظه أن هذا يحدث غالبا فى الصيف فقط، وهو الموسم الذى تكون فيه «الزرعة ميتة»، أى لا تنتج ثمرا كثيرا. يختلف الأمر بالنسبة لحجاج البكرى، فمع ارتفاع سعر الطماطم، يحرمه صاحب الزرعة من أن يأخذ منها ثمرة واحدة، «لكن فى الأيام التانية لو عبيت شوال، مش هيقول لى وينك». فى الثامنة صباحا، يبدأ حجاج عمله فى جنى الطماطم، يخلع حذاءه أولا: «الزرعة ليها حرمة، إياكم حد ينزلها بالنعل»، ينبه حجاج على زملائه المستجدين قبل بدء العمل. يضع حجاج ما يجنيه فى «غلق» جلدى سميك، ومنه إلى العداية». وفى الواحدة ظهرا، يساعد «الوشاش» فى عمله، فيكون عليه أن يعبئ الأقفاص بالطماطم، ويترك قدرا ضئيلا منها فارغا، ليملأه الوشاش بحبات كبيرة ممتلئة: «يجيب الطماطم الزينة الكبرانة على وش القفص، مش علشان تضحك على الناس، لكن علشان دى بتستحمل الجو وكبسة الشفر». الشفر (شين وفاء مفتوحة) هى سيارة النقل الكبيرة التى تنقل المحصول من الصعيد إلى سوق العبور بالقاهرة. بعد أن ينتهى تشويش الأقفاص، يحملها حجاج وزملاؤه العمال على سيارة نصف نقل، تنقلها بدورها إلى سوق إسنا، لتبدأ مرحلة جديدة من رحلة حبة الطماطم. فى الشادر، يجلس منصور تحت شجرة على طريق مصر أسوان الزراعى، أمام كوبرى أصفون، وعلى مقربة من «إعلانه» أن لديه بضاعة لمن يريد أن يشترى أو يبيع. مايسترو الطماطم كل صباح، يقف منصور على الطريق السريع، واضعا أمامه قفصين فارغين، «ده معناه انى بشتغل بضّان، أشترى من المزارعين وأبيع لتجار الجملة». لا يقتصر دور منصور على السمسرة، بل هو أشبه بمايسترو العملية كلها، يتفق مع ورش لتصنيع الأقفاص، بأحجام مختلفة، ويؤجرها للمزارعين كلٌّ بحسب مساحة أرضه وما تنتجه، ثم يتفق مع التجار الذين يتسلمون منه البضاعة جاهزة، محملة على عربة النقل الكبيرة: «الرسالة لازم تكون مربوطة مليح، دى بتسافر ليلة بحالها، ولو عداية طارت، ربنا يعوضك فى الشحنة كلها». الثالثة عصرا، يزدحم الشادر بالبضانين والمزارعين والتجار والشيالين، وتدور آلاف الجنيهات بينهم، «ادفع قبل ما تشيل»، تتعالى صرخة من مكان ما، و«عليا الطلاج (الطلاق) لتتحمل انت المشال»، يصرخ آخر ليلزم التاجر بدفع أجرة الشيالين. على مقربة، آلاف الأقفاص مرصوصة لا تعرف مشتريها بعد، وسيارات نصف نقل مرصوصة محملة بالطماطم، تنتظر استقرار التجار على سعر ليتم تحميلها إلى سيارات النقل مباشرة. وعشرات الشيالين مسترخين قبل جولة ساخنة من العمل المرهق. تتبدل الصرخات بعد قليل إلى «شيل، اجرُط، شد، هات السلبة إهنا»، ولا يهدأ المكان إلا وقد مالت الشمس ناحية الغروب. صفقات هاتفية خبرة منصور تجعله يتفق على شحنات الطماطم بالتليفون، فأحيانا يتصل به أحدهم من سوق العبور طالبا ألف عدّاية، يرسلها إليه فى سيارتين أو أكثر، وقد يرسل إليه المال عبر البريد، أو مع السائق نفسه. كما أنه يقسم الطماطم لأنواع، يعرف سوق كل نوع، وسعره «فيه كاس الروك، ودى كبيرة وقاسية لو خبطتها فى الحيط ترجع لك، وفيه الشرشة، طايبة وطرية وعصيرها غزير، وفيه الششتاوى، حجمها نص وسكرية، وفيه الميرى، دى كتيرة فى السوق بين كاس الروك والشرشة». يرجع منصور إلى حيث كان يقف صباحا، يلملم حذاءه، وشاله وعصاه، ويرن رنة على ابن عمه سائق نصف النقل، ليأتى يحمله، «فوت بينا الأول على زرعة سمعان الضوّ، لو نفعت نشيلها احنا الصبح».