«إلى التى خاضت معى فى الأشواق، فدميتْ ودميتُ، وشقيتْ وشقيتُ، ثم سارت فى طريق وسرت فى طريق: جريحين بسعد المعركة. لا نفسها إلى قرار. ولا نفسى إلى استقرار». هكذا يُصدر سيد قطب روايته «أشواك» الصادرة عن «دار مصر» عام 1947 بهذا الإهداء، وتعتبر هذه الطبعة هى الوحيدة، والتى لم تتكرر، ويدل الإهداء الذى كتبه قطب بوضوح على أن هناك علاقة وثيقة بين أحداث الرواية، وبين أحداث حياة سيد قطب، وبالأخص قصة حبه الوحيدة، والتى لم تسفر عن نتائج اجتماعية، مثل الزواج، وليس الإهداء وحده هو الذى يدل على ذلك، بل هناك قرائن عديدة فى الرواية تقول ذلك، هذه القرائن تتعلق بكون بطل الرواية «سامى» كان أديبا وشاعرا أو فنانا، وله مكانة أدبية مرموقة فى المجتمع، وأيضا سامى يعيش فى إحدى الضواحى، ويستقل هذا القطار يوميا إلى هناك، ومن المعروف أن قطب كان يعيش فى حلوان، زد على ذلك أنه يتحدث عن شقيقتين وشقيق آخر يعيشون معه فى المكان نفسه، وسنلاحظ أن الشقيقتين تلعبان أدوارا ما فى الرواية، وهنا نقصد «حميدة» و«أمينة» اللتين جاءتا معه إلى القاهرة، وتركتا موطنهما الأصلى، وعاشتا معه فى حلوان، وكتبوا جميعًا حميدة وأمينة ومحمد سيد قطب كتابهم الوجدانى الفاتن «الأطباق الأربعة»، وفيه ستجد أن الأدب لم يكن بعيدا عن الأسرة كلها، فكتبت «حميدة» و«أمينة»، قصصا جيدة فى ذلك الوقت وكتب سيد قطب ما يشبه المناجيات، أو زفرات من القلق والبوح والفضفضة، هذا بالطبع قبل أن يقودهم الشقيق سيد إلى طريق «الدعاية» الإسلامية، فينضم جميعهم إلى «الإخوان المسلمين»، ويكتب محمد قطب كتابه الشهير «جاهلية القرن العشرين»، وتلعب الشقيقتان أدوارا ما فى حركة «الإخوان المسلمين». إذن كانت هناك إرهاصات ومقدمات تنذر وتنبئ بكتابات قصصية عند سيد قطب، ولذا كانت روايته الأولى «المدينة المسحورة»، ثم روايته / سيرته: «طفل من القرية»، ثم هذه الرواية «أشواك»، والتى أفصح فيها وأبان وأوضح كثيرا من مكنونات روحه، وشذرات تفكيره، بالإضافة الى آرائه فى مجتمع الأربعينيات من القرن الماضى، خاصة كانت هواجس الحيرة تدك أى يقين كان يساور روح وعقل سيد قطب، وهنا تبرز كتابات وجدانية لقطب كثيرة تدل على هذه الحيرة المعرفية، والقلق الوجدانى، ففى مقال له تحت عنوان «الخلود» نشر فى مجلة الكتاب ديسمبر 1947.. يتساءل قطب: «من قال: إن كل شىء منى سينتهى حين أنتهى؟ نعم ستنتهى صورى وخيالاتى وخواطرى وذكرياتى، مثلما ينتهى كيانى الجسدى، ويذهب ويبلى... ولكن هناك شيئا خالدا.. شىء لن ينتهى أبدا.. تلك الموجات الشعورية التى فاضت من ضميرى، إنها لم تذهب سدى، لقد تلقتها قلوب ونفوس، ولقد تأثرت بها، ما فى ذلك شك.. ويكفى أن نقرأ مناجياته الفاتنة فى «الأطباق الأربعة»، والتى يصرح فيها ويصرخ: «لست أنت التى أريد يافتاة، ولا عليك أسى فى هذه الحياة.. إنما أريد ذلك الفتى الحالم، الذى كان يحيل حقيقتك المجسمة، رؤيا مجَّنحة، ذلك الفتى الذى كان يلقاك فى عالم الأجسام، كأنما يلتقى بأسطورة فى عالم الأوهام، ولا نود الاسترسال فى تبرير المقدمات التى حلت بالرواية، وجعلتها نتيجة لأسئلة عديدة كانت تناوش قطب فى تلك المرحلة الدقيقة فى حياته، قبل أن تنحسم بعد عودته من أمريكا لحساب التيار الإسلامى، وتجنيد كل طاقاته الفكرية فى خدمة ما انتمى إليه.. وسوف نعود لكتاب «الأطباق الأربعة» فيما بعد إن شاء الله، ومرحلته هذه القلقة. لم يكن الحديث عن المقدمات إلا لإثبات أن اللغة والمفردات والتعبيرات المطروحة فيها ترددت بشكل فنى وواسع فى جنبات الرواية، هذا فضلا عن الحس الرومانى الذى كانت تتمتع به روح سيد قطب «فالرواية» كلها قائمة على انهيار علاقة «سامى» بطل الرواية بفتاته «سميرة» لأسباب تتعلق بالغيرة، وأن «سامى» كان يشك فى خطيبته، حبيبته، بأسباب ودون أسباب، وعندما كانت سميرة تعتزله، أو تبتعد عنه، كان يعانى معاناة كبيرة، ويحاول بأشكال مختلفة، وبحيل العاشق الملتاث، وعقلية المجروح، أن يلتقى بها، أو يراها، أو يتمشى فى الشارع الذى تسكن فيه، أو حتى يركب الترام الذى يصل إلى منزلها، للدرجة التى دعته أن يطلق تعبير «الترام المسحور» على هذا الترام الذى يمر أمام منزلها، ويخترع صديقا قديما أو وهميا، حتى يكون ذريعة ليذهب إلى هناك حيث تسكن الحبيبة، ورغم أن سيد قطب كان ناقدا جهير الصوت آنذاك وحادا وقويا، إلا أنه لم يستطع أن يفلت من رومانتيكيته، هى صفة أساسية فى شخصيته وفى تربيته منذ عهده الأول، حتى مقالاته الأولى فى عشرينيات القرن الماضى بجريدة البلاغ، وبالأحرى قصائده الشعرية. تبدأ الرواية بمشهد الخطوبة الذى يضم الأهل والأقارب والأصدقاء، عندما تفاجئ «سميرة» «سامى» بأنها كانت تحب شخصا آخر، وتقدم لخطبتها، ورفض أهله، وتوحى له بأنها مازالت أطيافه تناوشها، ولكنها أوضحت له بأنها أرادت أن توضح له ذلك، حتى لا يكون هناك مسكوت عنه فى حياتهما، ولكن سامى أرقته هذه المعلومات، وراح يستقصى بنفسه عن مدى صحتها وعمقها، وهل مازال أثرها باقيا فى روح سميرة، أم لا، ولكنه وعدها بأنه سيساعدها فى أن يكون «محضر خير» فيعيد ما انقطع بين «سميرة» و«ضياء» الفتى السابق، وتبرع «سامى» بتلك المهمة، رغم أنها لم تطلب منه ذلك، ورغم أن المقام لا يتسع لمثل هذه المهمة، ولكن هذا الموقف بالطبع يذكرنا ببطل رواية شارل ديكنز «قصة مدينتين» التى يضحى فيها البطل بحياته من أجل حبيبته، وهنا يضحى البطل بحبه من أجل حبيبته، ولكن الأمر ليس تضحية، بقدر ما هو نوع من الارتباك، والعصبية الشرقية المدفوعة بالغيرة، فيذهب سامى إلى «ضياء»، وهو ضابط، فيخرج له بزيه الرسمى، ويبدى ضياء عدم اهتمامه بالموضوع، ثم إنه سيذهب إلى السودان فى مهمة عسكرية، ولا يشغله الموضوع إطلاقا، بالإضافة إلى أن أهله غير راضين عن تلك الزيجة، خاصة بعد علمهم بأنها قد تمت خطبتها، وفى سياق الحديث بين سامى وضياء، يعلمه الأخير بأنها لم تكن حاقدة على أهله، بل كانت محبة لهم، وفى إحدى غضبات ضياء من أهله قرر أن يترك المنزل، ولكن «سميرة» أصرت أن يعود لهم، فذهبت إليه فى المعسكر، وعند هذه النقطة اشتعل خيال سامى، ونبتت تصورات تتعلق بغيرته، ورسم صورا لسميرة وسامى متردية، ضيقت الحصار على روحه، وجعلته يشعر بالخديعة، خاصة أنه يرى نفسه كذات مرموقة وشامخة ومختلفة. فيقول: «لقد كان يحس دائما وهو ذاهب إلى هناك أنه أعز من أن يندس فى غمار الجماهير»، ويكتب ص40 أن والدتها تحترمه.. فابنتها خطيبة شاب تثق فى أخلاقه، ومستقبله طيب، وهو ملحوظ المكانة فى الأوساط الأدبية والسياسية، وهناك إشارات كثيرة تدل على أن «سامى» يقدر نفسه كثيرا، ولكنه لا يجد حظا أو حظوظا فى حياته العاطفية، ربما لتربيته.. فيكتب: «كانت تربيته الأولى فى بيئة محافظة متطهرة، وكان قد انصرف فى حياته إلى نوع من الجد لا يسمح له بالعبث، وكان الشعر والفن قد صانا خياله من التلوث». وكان هذا كله ببعده عن المرأة، ويصيبه بلون من الربكة والاضطراب حين يلقاها وجها لوجه، أيا كانت طبقتها ولغتها.. إذن هو بطل مركب، فهذه التربية تجعل من سامى إنسانا متطهرا، ولكنه شاك متقلب مرتبك، خاصة أن مدينة القاهرة التى يلعنها كثيرا فى الرواية، لم يجد أهلها أصلاء كما يتوقع، لذلك فالشك والحيرة والقلق والارتباك عناصر تلعب دورا كبيرا فى شخصية البطل، إنه يعاقب حبيبته، خطيبته، أسطورته على أفعال لم ترتكبها، بل تخيلها وتصورها بناء على أخبار صغيرة، هنا الخيال الضخم، ينبنى على حدث ضئيل، ويظل هذا الخيال يؤرق سامى، ويدور ويلف حول سميرة حتى ينال منها أى اعتراف، حتى يستريح، ولكنها تتركه يتعذب، وتتعذب هى أيضا، هنا سنجد صداما قويا بين أكثر من مستوى.. أخلاق وتربية القرية مع أخلاق وتربية المدينة، ثم شخصية «البطل» المثقف الشاعر الحالم مع «الفتاة» الواقعية البسيطة، هذه الصدامات الرئيسية بين حالتين وشخصيتين وثقافتين، لابد أن تنذر بانهيارات عديدة، انهيارات بين الشخصيتين، وانهيارات لكل شخص على حدة، بالإضافة إلى مساحة عدم الثقة التى اتسعت بين جميع أطراف الرواية، سامى وسميرة ووالدها ووالدتها، حتى زملاء سامى فى «الديوان» ارتابوا فى سلوكه، ووضعوا علامات استفهام حول التليفونات التى تأتى له، ورغم أن سامى الريفى يحاول أن يذهب إلى السينما، ويشاهد أفلاما عاطفية، إلا أن الريفى بداخله، يهب فى كل لحظة، لمجرد خبر، أو معلومة، أو لفتة، أو إشارة، حتى عندما ركبا الترام، ونظر لها «الكمسارى»، كاد يفتك به، ولكنه لم يَلُم إلا سميرة، وهو لا يعذرها، ولا ننسى هنا أن «قطب» يصف لنا السينما، ويتحدث عن «الجريدة» التى تعرضها الشاشة، ثم «الرسوم المتحركة» التى تعقب الجريدة، قبل عرض الفيلم، وفى هذه المرة التى دخلا فيها معا السينما، عادا من هناك، وكل منهما يحمل غضبا، لأن الفيلم كان يتعرض لقصة تشبه قصتهما، وحتى الرواية التى اختارها لها بالصدفة، وهى «الماضى الحى» لجى دى مرباسان، كانت تتقاطع مع قصتهما، هنا الفتى الريفى الحالم، والمثقف، والشاعر، والخيالى، والرومانتيكى، يؤول كل الأحداث والقصص والأخبار تأويلا واحدا، وهو أنه مطعون، ولكنه عندما تفارقه الخيارات، ويشعر بشوق إليها: «يحس عندئذ بالصفاء الهادئ يفارقه، وبالصوفية الشفيفة تتخلى عنه، وأجدَّت له هذه الخواطر شوقا جارفا شديدا، ورأى نفسه يعبر عن هذا الشوق بشعر حار ملهوف». فالشعر هو مبتغاه، وهدفه، وسلواه، وملجأه، هذا هو النهر الذى يستحم فيه الشاعر ويتطهر من أى تلوث يتعلق بروحه الشفافة، ونقائه الطاهر. هذا الفتى الريفى، الأديب المثقف الحالم الشاعر، لا يستطيع أن يصمد أمام خاميته وبكارته، فيصف لنا مشهدا بينه وبين حبيبته غاية فى الرقة، فيكتب: «ولم يكن يملك إلا أن يضمها إليه فى عنف، وهى تسكب فى نفسه أحلى رحيقها المذخور بهذه النظرة وتلك النظرة».. ثم: «ونسى المنزل ومن فيه وهم على مقربة منها وراح يضمها إليه فى شوق عارم، ويهوى على شفتيها فى لهف حرور، وأحس أنها تتذاوب فيه، وتتفانى بكاملها، وأنها تستجيب له بكل ذرة فيها، وأنها تتلاشى وتتداخل وتتهاوى». الراوى هنا يطرح حالات متضاربة، حالات تشبه تماما، ورغم كل ذلك يصر على الاقتران بها، حتى بعد أن انفصل عنها لمدة عامين، ولكنها لا تستطيع أن تتحمله، أو تقبل إهاناتها لهذه الطريقة، رغم أنها تقدره، وعندما التقيا صدفة، وكان معها طفل صغير، لم يصدق أن هذا الطفل منسوب لغيره، حتى إن اسمه هو الذى كان يحلم به، بل إنه كان قد تخيله.. وينهى قطب الرواية بقوله: «خيالات، وما الفرق بين الخيال والواقع، وكلاهما طيف عابر يلقى ظله على النفس ثم يختفى من عالم الحس بعد لحظات؟». هذا جانب شبه مجهول عند سيد قطب، ومن الفادح تغييب هذا الوجه، أو محوه، لذلك فهناك ضرورة قصوى لإعادة نشر تراث هذا الرجل، بدلا من أن يطبعه وينشره آخرون كما حدث مع كتابيه: «طفل من الغربة»، و«مهمة الشاعر فى الحياة» اللذين نشرا فى دار الجمل بألمانيا.