فى التاكسى الذى استقله الشاب عبدالكريم عمار كان بانتظاره سائق مسيحى، فيما يبدو ضليع فى مجال مقارنة الأديان، أو بدا كذلك بالنسبة لعبدالكريم الذى سمع كلاما جديدا تماما عليه. فقد بدأ السائق يحدثه عن الإسلام مشككا وعن المسيحية مرغبا. عبدالكريم الشاب السلفى الملتزم الذى يتلقى دروسا فى العلوم الشرعية التقليدية من قرآن وحديث وفقه لم يتمكن من الرد عليه. «قلت يا نهار أسود!» يعبر عبدالكريم عن صدمته آنذاك، لقد واجه لأول مرة شيئا من «التنصير» الذى يقول إنه طالما سمع عنه. ولكنه عن طريق معارفه سمع أيضا عن «الأكاديمية الإسلامية لدراسات الأديان والمذاهب» التابعة ل«مركز التنوير الإسلامى» الذى أسسه ويديره الكاتب والداعية أبوإسلام أحمد عبدالله. تقدم الأكاديمية دورات تثقيفية يدرس فيها الطلاب مواد تتعلق بمقارنة الأديان وبالتحديد «نقد المسيحية والرد عليها» بغرض «مواجهة التنصير». تلقى عبدالكريم الدورة التى تستغرق 50 ساعة على مدى شهرين تقريبا وظل على صلة بالمركز لفترة قبل أن يصبح أحد المحاضرين فى هذه الدورات وأحد الناشطين المتطوعين فى خدمة المركز، حتى أنه لا يجد غضاضة فى تقديم الشاى أحيانا لأبى إسلام فى المركز. يتلقى أبوإسلام أحمد عبدالله كوب الشاى من يد عبدالكريم ممتنا. يلتفت مبتسما: «والله لو خيرت أن أفقد إسلام ابنى أو أفقد واحدا من أبناء المركز، أختار أن أفقد ابنى!. لقد تخرج فى دورات المركز إلى الآن 600 دارس ودارسة، على الأقل 100 منهم الآن نجوم فى مواجهة التنصير على الإنترنت وغيره. أسود يملأون قلب عدوهم غيظا». أسس أبوإسلام مركز التنوير الإسلامى عام 1997، لكى يكون منطلقا لمشروع دعا إليه تحت اسم «حتمية العودة والمواجهة». وكان مشروعه ردا على حملة شنتها الدولة فى التسعينيات لمواجهة «الإرهاب والفكر المتطرف»، وأصدرت سلسلة كتب رخيصة تحت عنوان «المواجهة» و«التنوير» وأسس فرج فودة «جمعية التنوير». يقول أبوإسلام إنه حاول إقناع عدد من الدعاة المسلمين وقتها بالاشتراك فى سلسلة مضادة تحت عنوان «حتمية العودة» ولكنهم «تخاذلوا»، على حد تعبيره. يقول أبوإسلام إن تركيز نشاط المركز فيما بعد على «مواجهة التنصير» كان بهدف التميز لأن هناك كثيرين كتبوا وتكلموا فى مواجهة العلمانية والماسونية واليهودية، والكتابة فى مواجهتهم نشاط قديم لأبى إسلام، بينما يرى أن «التنصير» يحدث على قدم وساق وهو يكاد يصرخ فى مؤلفاته محذرا منه. يحكى أبوإسلام وتلاميذه قصصا متعددة عن سائقى التاكسى الذين يبشرون بالمسيحية وينتقدون الإسلام، وعن المطويات التنصيرية التى يتم توزيعها فى شوارع بعض الأحياء. قد يبدو هذا للبعض ممن لم يصادفوا مثل هذه المواقف من قبيل «اللى يخاف من العفريت يطلع له». ولكن الأكثر ظهورا هى الحوارات الكثيرة الهادئة أو العنيفة على منتديات الإنترنت بين شباب مسلمين ومسيحيين، بعضهم نذر نفسه وجعل هدفا لحياته الدفاع عن دينه والتشكيك فى الدين الآخر. فى بعض مطبوعات الأكاديمية، التى تشبه ملخصات المناهج الدراسية ومراجعات ليلة الامتحان، اهتمام خاص بأسلوب الجدل والمناظرة، وهناك نصائح وتعليمات خاصة بأسلوب الردود على منتديات الإنترنت أو المناظرة الصوتية فى غرف «البال توك» (موقع للدردشة فى غرف مقسمة حسب موضوعات النقاش). أما المضمون الدراسى فيركز على الإلمام بالعقيدة المسيحية والتركيز على «نقاط الضعف» والمواضع المثيرة للجدل فى الإنجيل التى ينبغى أن تثار، وفى المقابل هناك مناقشة ل«الشبهات» المتوقعة التى يثيرها «الخصوم» بشأن الإسلام والقرآن والنبى محمد، ويجب على تلاميذ الأكاديمية معرفة كيفية الرد المفحم عليها. يتنوع محاضرو الأكاديمية بين أساتذة متخصصين من الأزهر ومن شباب فى العشرينيات والثلاثينيات من خريجى الأكاديمية النابهين الذين رأى فيهم أبوإسلام حضورا وحماسة. يتدخل عبدالرحمن سالم، الطبيب الشاب خريج الأكاديمية والمحاضر فيها الآن، ويقول إن علماء الأزهر الذين درسوا يفتقدون للروح، وعندما كان يسألهم أثناء الدراسة عن استخدام المادة العلمية التى يدرسونها فى الرد على المسيحيين كان بعضهم يقول له: تعلم المادة العلمية فقط للمعرفة ولا تجادل أحدا. بينما وجد عبدالرحمن فى المحاضرين الذين يدرسون ويعملون بمجالات أخرى حماسة واهتمام أكثر، فهم أصبحوا محاضرين بعدما درسوا فى الأكاديمية أو اهتموا بمجال «الدفاع عن الإسلام» بدافع شخصى وليس بغرض الحصول على «شهادة دراسية» أو لقمة عيش. يهز أبوإسلام رأسه أسفا من أن معظم علماء الأزهر المتخصصين كانوا يصرون على تقاضى أجرا مقابل التدريس بينما يتطوع كل المحاضرين غير المتخصصين، ويضيف: «ولكن هذا مرتبط بتخاذل المؤسسة الدينية الرسمية من الأساس ولابد أن نتاجها سيكون متخاذلا وضعيفا. ولكن بحمدالله هناك معيدين بجامعة الأزهر جاءوا ودرسوا فى الأكاديمية لحاجتهم إلى نوع العلوم الذى نقدمه». رد الحجة بالحجة الانتقاد الذى يوجه لهؤلاء الشباب من علماء الأزهر هو أن الجدل بين الأديان يجب ألا يترك لعوام الناس لأنه مثير للمشاعر ويندر أن ينضبط الحوار فى مسائل العقيدة المعقدة والدقيقة. يعلق أبوإسلام أن ذلك ربما يكون صحيحا فى المطلق، ولكن عندما يكون هناك «صراع» بين الأديان وهجوم على الإسلام يجب على كل مسلم أن يدافع. ويضيف: «ما نفعله على العكس يعصم الشباب العادى من الهياج والرد العنيف. فعندما تفتقر إلى المعرفة بدينك ودين الآخر ستثور مشاعرك عندما يهان دينك فترد بيدك. لكن لو لديك المعرفة سترد بالحجة بدلا من ذلك». ولكن ذلك لا يمنع من كثير من الشدة والعنف اللفظى اللذين تحفل بها مقالات أبى سلام وأحاديثه: «أنا أصطنع الشدة صناعة. هناك 75 مليون مسلم يسكتون أو يتعاملون بلين مع المسيحيين. لا ضير فى واحد أو اثنين يرد بغلظة. الحكمة تقتضى أحيانا أن تضرب ب«الجزمة» من يستحق ذلك. وأن ترد بقلة أدب على قليل الأدب. أنا مثلا أقول دائما إن أحد القساوسة الذى ينتقد الإسلام فى برامجه على فضائية الحياة هو كلب المسيحية. نعم، وأنا فى المقابل كلب الإسلام!». ورغم أنه يدافع عما يقوم به المركز بدافع من حرية التعبير متسائلا: ألا يدعو الشيوعيون إلى أفكارهم فى حرية؟ إلا أنه يشتط غضبا عندما يقال أمامه إن من حق المسيحيين الدعوة لدينهم مثلما يدعو المسلمون فيقول: «لا، الأمر مختلف. للبيت أب، وهناك كبير وصغير، وأغلبية وأقلية. حرية المسيحيين فى الدعوة لدينهم همجية وليست حرية، وليس فى مصلحة المسيحيين أن يدخلوا معركة التنصير والأسلمة. الحسبة بسيطة: لو أن 5 ملايين مسيحى عملوا كلهم فى التنصير سينصرون 5 ملايين مسلم على الأكثر، بينما لو 10 ملايين مسلم فقط اشتغلوا بالأسلمة سينتهى وجود مسيحيى مصر بمن نصروهم!». لحسن الحظ أن الملايين لم يدخلوا بعد «اللعبة البسيطة» التى يحكى عنها أبوإسلام، ولكن أعدادا كبيرة من الشباب وجدت إثارة كبيرة فى لعبة الشد والجذب هذه منذ السبعينيات. عندما اشتهر الشيخ أحمد ديدات، الهندى الأصل، بكتبه الناقدة للمسيحية ومناظراته مع القساوسة. واصبحت كتبه وفيديوهات مناظراته ومناظرات أخرى وشرائط كاسيت لقساوسة أسلموا تباع أمام أبواب المساجد وعلى الأرصفة. يؤكد أبوإسلام أنه يتبنى خط الشيخ ديدات، مؤكدا أنه أول من اتخذ مواجهة التنصير مجالا أساسيا فى مصر: «عندما وصلت للأربعين فكرت فى بداية دورات الأكاديمية لتخريج جيل يكمل المسيرة. الهدف أن نستنسخ العديد من أبى إسلام فى هذا المجال». ويبدو أن إيقاع المواجهة يتسارع، ولذلك بدأت الأكاديمية من فترة فى الإعلان عن دورات اليوم الواحد، 8 ساعات من المحاضرات التى تزود المسلم بالحد الأدنى الذى يحتاجه لكى يخوض جدلا عقائديا دفاعا عن دينه ومهاجما محاولات التنصير. ينتشى أبوإسلام عندما يسمع التساؤل إن كان الشباب الذين يقودون حملة «تحرير كاميليا» ويدعون للتظاهر من أبناء المركز، ولكنه يبتسم ويقول: «وهل تظن أن سيل (المسلمات الجدد) وحملات الدفاع عنهن انطلقت من شباب يفتقدون لحد أدنى من التأهيل؟ ولكن أبناءنا نشطون بحرية. وعلاقتهم بالمركز تظل مجرد نصيحة، لأن المركز عمله يقتصر على التثقيف. ليس من الذكاء أن أتحمل مسئوليتهم أو يتحملوا مسئوليتى»، يسكت ثم يضيف: «القبضة الأمنية الشديدة تمنعنا من أشياء عديدة. نحن أيضا لا يمكننا الإعلان عن حالات إسلام مسيحيين يكون فيها المركز سببا أو حالات تنصر مسلمين نكشفها. نتعرض لمضايقات عديدة ومتنوعة ولكن لا مجال للخوض فيها». المركز مشهر كشركة مدنية، ويقول أبوإسلام إن ربح المطبوعات واشتراك الدورات يغطى تكاليفه بالكاد وربما يطلب من دارسى إحدى الدورات أن يساهموا فى إيجار المركز الذى يحتل شقة فى منطقة العباسية. ويؤكد أن المزيد من الإمكانات يحتاجه هذا المجال خاصة مجال الدفاع القانونى عن المسلمين الجدد ومتابعة احتياجاتهم المختلفة، وبعض هذه المهمات يؤديه تلاميذ وخريجو المركز تطوعا. فى ذكر الجيزاوى يأتى ذكر أحمد الجيزاوى المحامى، أحد خريجى المركز. فيحكى أبوإسلام كيف أنه كان «مرعوبا» فى أول مرة ذهب مع مسيحى أشهر إسلامه ليساعده فى الإجراءات، بينما الآن أصبح صاحب مركز مستقل. ولكن الشيخ أبوإسلام يبدى أسفه من أن الجيزاوى أصبح مطيعا للأمن وخرج عن خط المركز ونهجه. مكتب المحاماة الخاص بأحمد الجيزاوى، الذى يبلغ من العمر 28 سنة، هو نفسه مقر مركز «نداء للحوار بين الأديان» الذى أشهره أيضا كشركة مدنية عام 2002 بعد تخرجه فى أكاديمية مركز التنوير: «أنا ومعظم الشباب المهتمين بهذا المجال تلاميذ أبى إسلام وندين له بالفضل. هو أول من ابتدع هذا المجال فى مصر، وهى بدعة حسنة». ولكنه يضيف أن أبا إسلام يصطدم بالأمن وهو ما يعوق نشاطه ويؤثر عليه، بينما يحاول هو فى تجربته المستقلة الابتعاد عن ذلك. يقول الجيزاوى: «المركز بالأساس مشروع شخصى لى وفريق المركز مجرد 3 أشخاص نعمل بالجهود الذاتية. كان اسمه (مركز نداء للمقارنة بين الأديان) ومهتم بالبحث النظرى وتقديم مادة تفيد الشباب الذى يدافع عن الإسلام على الإنترنت. ولكننا فيما بعد حاولنا تجنب النشاط على الإنترنت لتجنب سلبياته. فمعظم الشباب المسلم والمسيحى يكتب ويناظر بأسماء مستعارة وتحدث مشاحنات وسوء تفاهم. ووجدنا أن المركز يجب أن يتوجه إلى العمل على الأرض». يوضح الجيزاوى أن ذلك يعنى الذهاب إلى من يسعون إلى التبشير فى منطقة ما لمناقشتهم ومناظرتهم، وكذلك استقبال مسيحيين راغبين فى الحوار أو الدخول فى الإسلام. كما أنهم فى فترة سابقة أجروا لقاءات مستمرة مع قساوسة وشباب مسيحيين داخل كنائس قبطية وإنجيلية، إذ توجه الجيزاوى ورفاقه إليها لظنهم أنها تقوم بنشاط تبشيرى. ويقول الجيزاوى: «هذه اللقاءات كانت مناظرات مغلقة واستمرت من 2004 إلى 2008 وتوقفت فجأة بعد اعتذار الكنائس عن الاستمرار فى ذلك، ونحن أيضا ركزنا جهودنا على الحوار مع رجل الشارع وليس المناظرات المغلقة للخاصة». يصدر مركز نداء أيضا بيانات ومطبوعات ومادة دورة على أسطوانة يهديها مجانا للشباب الراغب فى الإلمام بالمعلومات الأساسية التى تساعده فى الجدل حول الإسلام والمسيحية. مطبوعات مركز التنوير تشبه غالبا ملخصات دراسية مكتوبة بلغة مبسطة، أما مواد مركز نداء فتشبه كراسة طالب، مكتوبة بلغة بالغة الركاكة ومليئة بالأخطاء اللغوية الفادحة. وفى مدونة المركز على الإنترنت، التى يوجه الجيزاوى فيها دعوة إلى البابا شنودة لمناظرته شخصيا، هناك تعليقات من قراء تسخر من الأخطاء اللغوية العجيبة لمن يقومون بمقارنة الأديان. يتخذ الجيزاوى خط إبى إسلام نفسه الذى يمزج «مقارنة الأديان» بخطاب سياسى ضد الكنيسة المصرية وممارساتها والبابا شنودة وسياسته. ويكرر بعض ما يقوله أبوإسلام عن أن الحكمة تقتضى أحيانا بعض الشدة والحدة فى الرد عندما تحدث إساءة. ولكن الجيزاوى يتخذ شكلا قانونيا فى مناقشة بعض النقاط، فهو لا يرى من حق المسيحيين الدعوة لدينهم لأن الشريعة الإسلامية تجرم الردة عن الإسلام، ولذلك فدعوة المسلمين إلى دين آخر هى دعوة تخالف القانون والدستور الذى يتخذ الشريعة الإسلامية مصدرا! كقانونى ينشط الجيزاوى أيضا فى حالات التحول إلى الإسلام فيقدم دعما قانونيا للمسلمين الجدد، وعن طريق علاقاته يحاول توفير دعم مادى أو غيره من باب الإنفاق على «المؤلفة قلوبهم»، كما فى بيانات المركز. يقول الجيزاوى إنه يتعرض أحيانا للاعتقال وأن ذلك حدث معه أثناء محاولته دعم وفاء قسطنطين، ويضيف أنه مع زملاء من خريجى مركز التنوير كانوا آخر من رأوها فى المستشفى قبل اختفائها، ولكنه رغم ذلك يقول: «الأمن فقط يقلق من التناول الإعلامى وإثارة الضجة ولكن فى الحقيقة هناك الكثير من الضباط يساندون المسلمين الجدد ويعرضون مساعدتهم إن تعرض إليهم أحد». هناك تفاوت شديد بين الناشطين فى مواجهات التنصير و الأسلمة، بين تفهم موقف الأمن ثم اتهامه فى مواقف أخرى بمحاباة الكنيسة ومساعدتها على خلق دولة داخل الدولة فى مقابل التضييق على الإسلاميين. يعلق أبوإسلام مبديا أسفه: «أحمد الجيزاوى ضاع مننا، ولكن خريجى المركز وتلاميذى غير المعروفين والذين يتجنبون الظهور كثيرون، بارك الله فيهم لهم صولات وجولات ويملأون قلب عدوهم غيظا بحمدالله». عبدالرحمن سالم وعبدالكريم عمار هى أسماء مستعارة لبعض محاضرى المركز الذى فضلوا عدم ذكر أسمائهم الحقيقية.