تمر الساعات والأيام والشهور فى غفلة منا، نستسلم لهذا المرور فى عجز كامل عن التشبث بأكثر أوقات حياتنا حميمية وصدقا، ويصبح الأمل والمنجى الوحيد هو استدعاء التجربة بذاكرة متحررة من إرهاق اللحظة وقيودها، لعل يكون ذلك هو عين التصالح مع النفس التى دأبت على السير دون استراحة محارب قصيرة للتأمل أو حتى للتداوى، هذه الحالة انعكست فى عمل الكاتب الكبير جمال الغيطانى الجديد «ساعات»، الصادر عن دار الشروق، الذى يشبه تغريدة، رغم فرط رقتها، يسكنها حزن عميق كأنما بُعث من أغوار محيط سحيق. «الزمن» بشكل عام طالما كان «تيمة» حيرت الغيطانى وخاض بجسارة داخل متاهاته فى أعماله الأدبية، أما فى مجموعته القصصية الجديدة «ساعات»، التى كتب نصوصها خلال السنوات العشر الأخيرة، فقدم قصصا أشبه ما تكون بومضات كثيرا ما ينتابك شعور أنها تلتقط، كما يطلق عليه أهل السينما، ال«ماستر سيين» Master scene فى حياة أبطالها الذى عادة ما يكون الأكثر مكاشفة وتجليا وتأثيرا وتنضح منه لغة الصورة والدراما الناعمة. العناوين التى اختارها الغيطانى لقصصه اتسمت بالتجريد الذى يحطم أسوار المعنى الواحد المقيد ويبعث آلاف الدلالات والمعانى داخل النفس، منها «اندثار»، «بقايا»، «آخر الدنيا»، «أوصاف»، «صفاء»، «ساعات»، «مكتب»، «نوم»، «فم»، «فورة»، هذه القدرة على التكثيف واستدعاء كلمات بهذا الاتساع الأفقى لم تكن تقديما لقصص زائغة المراد أو مبعثرة التفاصيل، وإنما كان التعبير القصصى ينطلق من زاوية محددة تحكمها فكرة ملتقطة بعناية، من بين هذه القصص التى حملت الكثير من الشجون هى «نفس» التى عبرت عن حالة من أكثر الحالات إرهاقا التى تستغرق حياة المرء لاسيما داخل منطقة لاوعيه حتى تتجلى وتعبر عن نفسها بوعى بكل صدمتها وألمها، هذه الحالة هى التى يمكن التعبير عنها بحالة مراجعة النفس والعمر، ففى هذه القصة تحتار أم أحمد فى حال زوجها رفيق الخمسين سنة بعد أن خارت قواه ومكث فى البيت فى هوان وانكسار شديدين، وأرجعت بفطرتها البسيطة هذا الأمر إلى أنها «عين وصابته»، فأنهكها كثيرا أن ترى زوجها الذى يعمل طيلة عمره بتصليح الساعات فى حالة العزوف تلك عن الحياة والعمل وهو الذى «كان منضبطا تماما كالساعات السويسرية»، وبمحاولاتها الودودة اكتشفت أن أبوأحمد وبعد هذا العمر «مش لاقى نفسه فى الشغلة دى»، كما ورد على لسانه المحبط، حتى وضحت نبرة البكاء فى صوته «يا ريتنى كنت اشتغلت حاجة تانية»، ولا تزال أم أحمد تعلل ذلك بأنها «عين وصابته»، فيما يزداد هو فى التوحد مع اكتئاب عاجز عن إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، فينام مستسلما وهو يعجب من صمته طوال هذا العمر على مهنة لم يرض عنها، ولم يجد نفسه فيها. حكاية «أبو أحمد» رغم بساطتها إلا أن عنف مراجعة النفس بها كان مؤلما، تماما كحالة الاضطراب النفسى والوجودى التى تسربت من بين سطور قصة «نوم» التى بدأها الغيطانى بقوله: «لا أعرف متى بدأ ذلك؟» فى افتتاحية تعكس فيضا من حيرة وارتباك، فصاحبها كان يشكو النوم العسر المزمن، من ذلك النوع الذى يتوسل إليه صاحبه بشتى السبل فلا يجبه ولا يأتيه، ولكن مع تبدل الأيام والسنين حدث ما لم يدر يوما بخاطره اليقظ دوما، وهو زحف النعاس ومباغتته له فى شتى الأوقات حتى تلك التى كان حرى به أن يظل بها يقظا كما فى المواصلات العامة مثلا، فيتعجب بطل القصة من هذا النوم المستجد «أما أن أسند رأسى إلى الوسادة وأروح على الفور فى النعاس فهذا ما لم أعرفه حتى زمن مكوثى فى المستشفيات التى اضطررت إلى قضاء أوقات فيها، لم اعرف هذا إلا فى الشهور الأخيرة، يمكن القول بعد أن بدل الطبيب أنواع الدواء الخاصة بالشرايين، هل للأمر علاقة؟ (.....) بدأت ألاحظ قصر المدة التى أسلكها صوب الغفو، لم أعد أعانى التقلب وتغيير وضع الوسادة والتردد مرات على دورة المياه لإفراغ ولو قطرة أشتبه وجودها فى مثانتى، ارتحت إلى ذلك إلى اختفاء المعاناة التى كانت تؤرقنى والتى دفعت بى إلى التردد دائما أننى لم أعرف النوم طوال ستين عاما إلا مرتين أستعيدهما دائما»، ويربط البطل فى تأمله لحالة عدم الاستغراق فى النوم المرهقة تلك وقرار التقاعد «أردد خلال السنوات الماضية أننى فى حاجة إلى الاستغراق، لذلك لابد من التقاعد، غير أننى لم أجرؤ على تنفيذ ما نويته لأسباب يطول شرحها، غير أننى عندما انتبهت إلى رحيلى السريع إلى النوم ارتحت إلى ذلك فى البداية، غير أننى بدأت أقلق عندما لاحظت تزايد تثاقلى، عادة كان ينقصنى وقت معلوم ما بين استيقاظى واكتمال إفاقتى، لنقل ساعة حتى ساعتين، غير أن ذلك التثاقل يصحبنى حتى وصولى إلى المكتب، أحط، فوق المقعد ولا أقعد»، هذه الروح التى تسللت فى «نوم» دفعت الناقد المغربى المعروف محمد يوب فى إحدى كتاباته للتساؤل: هل أن جمال الغيطانى تعب من التفكير وأراد الخلود إلى النوم والراحة الأبدية، والاستراحة من التفكير الوجودى القهرى الذى يلاحقه طيلة ستين سنة؟.