منْ يطلع على السيرة العلمية للدكتور محمد صابر عرب يفاجأ بما تحتويه، فيكتشف أنه غزير الإنتاج فى كتابة بحوث التاريخ العربى، وهو تخصصه العلمى، فضلا عن أنه عضو فى العديد من اللجان العلمية مثل عضويته فى مجلس إدارة مركز الدراسات والبحوث الوثائقية، وعضو باللجنة المكلفة بكتابة تاريخ الأمة العربية بتكليف من الجامعة العربية، وخبير فى المجلس الدولى للأرشيف، وكذلك فى المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. لذلك ليس من الصعب عليه الجمع بين رئاسة هيئتين ثقافيتين، الأولى هى دار الكتب والوثائق القومية كنز الباحثين وبنك الوطن، والتى تساعد الباحثين فى كتابة مختلفة للتاريخ الرسمى، وتصحح، فى أحد جوانبها، صورة الشرق لدى المستشرقين. والهيئة الثانية هى الهيئة المصرية العامة للكتاب التى يدور حولها الجدل والإثارة من وقت إلى آخر. ولكن لا يمكن إغفال دورها. عن هاتين الهيئتين يواجه صابر عرب أسئلة كثيرة وانتقادات واسعة، تزيد مع الهيئة الثانية وتقل حدتها مع الهيئة الأولى التى شهدت تطورا ملحوظا خلال رئاسة صابر عرب، خاصة دأبه فى أرشفة وحماية وترميم الوثائق القومية، وتسهيل إطلاع الباحثين عليها. يجلس عرب عادة فى مكتبه الواسع بدار الوثائق القومية المجاور للهيئة العامة للكتاب على كورنيش النيل. وجدته يتحدث باحترام جم مع أحد العلماء المحقق الدكتور محمد الحلوانى، متحمسا لحل إحدى مشكلاته، فضلا عن اهتمامه بإصدار الكتاب المهم «شخصية مصر» لجمال حمدان. نظر إلىّ قائلا: «سأكون معك بعد قليل، حيث إننى لا أستطيع أن أترك أستاذ الأساتذة»، وكان يقصد الدكتور الحلوانى. ثم دخن سيجارة، وقال: ما أسئلتك؟ ● فسألته: ما تعليقك على ما يقال حول مدى أهمية وجود الهيئة العامة للكتاب مقارنة بالدول المتقدمة؟ قبل الإجابة عن السؤال أسألك: هل تنكر دور الهيئة العامة للكتاب فى تكوين مكتبتك أو مكتبة غيرك؟، هل تريد أن تباع أو تلغى فى ظل الظروف الاقتصادية التى نعانى منها؟!. والقول بأن الدولة المتقدمة فى النشر والكتاب ليس بها ما يسمى الهيئة العامة للكتاب، قول سليم. لكن هذه الدول المتقدمة يصعب مقارنتها من حيث وضعها الاقتصادى والتشريعى بالواقع المصرى فضلا عن شيوع ثقافة التخلف التى تستوجب دعم الدولة لحركة النشر من خلال مؤسسات حكومية تستهدف وصول الكتاب إلى المجتمع بسعر يشجع الجمهور على شراء الكتاب، وهو ما تقوم به الهيئة المصرية العامة للكتاب منذ ما يقرب من نصف قرن. إن ما قامت به الهيئة العامة للكتاب خلال هذه الفترة يعد علامة بارزة فى حياتنا الثقافية، حيث أتاحت نشر أعمال مئات من المبدعين فى شتى مجالات المعرفة، بل نشرت العمل الأول لمعظم المبدعين الذين أصبحوا كبارا، وقد تجاوزت أعمالهم مصر إلى الدول العربية فضلا عن الترجمات من المعارف الأوروبية والتى كانت بمثابة طاقة نور للمجتمع. ● لكن يا دكتور هناك ملحوظات على ما يتم تقديمه فى هيئة الكتاب؟ بالطبع هناك ثمة ملحوظات على إخراج الكتاب أوفى التوزيع أساسها اختيار بعض العناوين غير المسوقة فى المسرح والثقافة العلمية وبعض الأعمال التجريبية للشباب. لكن لا يجب نسيان أن الهيئة ما زالت تستهدف المجتمع معرفة وثقافة وتنويرا، وهو ما يستوجب رعاية الدولة التى تدعم الكتاب بقدر دعمها لرغيف الخبز. ● وأين الدعم لبقية الكتب غير الحكومية أى دعم الكتاب المصرى سواء حكوميا أو خاصا؟ إذا كنت تقول بأن رعاية الدولة للكتاب يجب ألا تقتصر على هيئة الكتاب، فأنا أوافقك سواء فى إعفاء الورق وماكينات الطباعة من الجمارك والضرائب أو غير ذلك من وسائل الدعم المختلفة حتى يستعيد الكتاب المصرى دوره فى العالم العربى. وأتفهم الموقف القائل بحرية المنافسة للنشر على أسس اقتصادية خالصة، لكن هل يغيب عن أذهاننا الموظف والطالب والعامل الذى لا يتجاوز دخله فى الشهر سعر كتابين أو ثلاثة فى دور النشر الخاصة، وبحكم تجربتى فى إدارة العمل الثقافى فقد لاحظت أن إصدارات وزارة الثقافة بكل مؤسساتها يتلقفها المجتمع المتعطش للمعرفة وخصوصا الطبقة الوسطى التى أصبح من الصعب عليها اقتناء الكتاب إلا بالسعر الذى يتناسب وظروفها الاقتصادية. ● لكن هذا هو دور النشر الخاصة لا دور مؤسسات الحكومة الثقافية وغيرها والتى من المفترض أن تقوم بدورها الحقيقى فى التشريع والرقابة والدعم؟ إن الهيئة ليست منافسا لأحد، وليس فى مخططها أن تكون منافسا، بل هى تقوم بدورها فى شيوع ثقافة المعرفة من خلال إصداراتها فى شتى فنون المعرفة. ولا أنكر أنها ينقصها الكثير من الأشياء لتطويرها، ولكى تقوم بدورها فى نشر المعرفة، منها نشر الكتب المهمة التى شكلت ثقافة المصريين. وحينما تشاع آليات سوق النشر يمكن وقتها أن نناقش دور الهيئة فى ظل هذه الآليات الحديثة. يجب ألا نقارن وضع مصر الاقتصادى مع الدول المتقدمة. وحينما تتقدم مصر فى الاقتصاد، وبالتالى فى سوق النشر حينها يمكن البحث عن مدى أهمية هيئة الكتاب. ● شكوت أكثر من مرة من تعطيل صدور قانون الوثائق المصرية.. منْ الذى يعطله؟ الإجابة عن هذا السؤال تستوجب الرجوع إلى التاريخ. حينما أسس محمد على والى مصر مؤسسة دار الكتب والوثائق القومية «الدفتر خانة» عام 1828، صاحب تأسيسها صدور لوائح تشريعية تنظم العمل بها، وألحقها بقواعد تنفيذية إجرائية صارمة جعلت من هذه المؤسسة بمثابة بنك للمعلومات التاريخية والثقافية والحضارية. واستمرت هذه المؤسسة تحت مسمى «الدفتر خانة»، واختلفت مسمياتها فى فترات تاريخية مختلفة إلا أن صدر القرار الجمهورى بإنشاء دار الوثائق القومية 1954 وفقا لقانون صدر فى ذات التاريخ ينظم العمل فى الدار ويحدد العلاقة القانونية بين الدار ومؤسسات الدولة المختلفة، ثم صدرت مجموعة من القوانين والقرارات فى فترات تاريخية لاحقة، وجميعها تتعلق بذات الموضوع لكنها خلت من إلزام المؤسسات المختلفة بتسليم الوثائق، بل تركت لهذه المؤسسات حرية التسليم من عدمه. لذلك توزعت الوثائق بين مؤسسات الدولة المختلفة دون أن تكون هناك مرجعية قانونية ملزمة، مما عرض وثائق مصر، وخصوصا خلال النصف الثانى من القرن العشرين، إلى مخاطر نظرا لغيبة القانون بمعناه الفنى والعلمى. ثم وضعنا منذ أربع سنوات مشروع قانون رعينا فيه جميع القوانين المنظمة فى العالم، ونتطلع إلى سرعة إصدراه فى أقرب وقت، وألا ستظل الوثائق المصرية معرضة للإهمال والضياع. وأعترف بأن لدينا أزمة حقيقية نتيجة عدة عقبات حالت دون تمكين دار الوثائق من أداء دورها، ولعل أهم هذه العقبات أن القانون الحالى معيب شكلا وموضوعا من جوانب عديدة، ومنها أنه للجهات الحكومية حق الاحتفاظ بوثائقها إذا رأت ذلك، فكانت النتيجة ما نراه الآن من فوضى وثائقية لدرجة أنك يمكن أن تجد وثائق مصرية تاريخية تباع فى أسواق الروبابكيا. ● وماذا عن الوثائق المحفوظة بالدار؟ قطعنا شوطا كبيرا جدا فى التعريف بها من خلال قواعد بيانات علمية أصبحت متاحة للباحثين والدارسين فضلا عن حفظ هذه الوثائق وحمايتها وترميمها من خلال مركز ترميم متطور وحديث، يعمل فيه شباب تم تأهيل معظمهم خارج مصر، ويعملون بكفاءة عالية. وسوف نحتفل منتصف العام المقبل بافتتاح المبنى الجديد لدار الوثائق بعين الصيرة بتكلفة مائة مليون جنيه، سيكون نقلة فى تاريخ المؤسسة. وأعتقد أنه لو صدر القانون سوف تكون الدار قد اكتملت منظماتها الفنية والإدارية. ● مرة أخرى منْ الذى يعطل صدور القانون؟ لا أعرف بالضبط، إذ حينما أسأل يتم الرد: «القانون تتم دراسته». ● وما مصير وثائق ثورة 23 يوليو، وحرب 1948، وحرب 1967؟ فى غيبة القانون عليك أن تتجه إلى وجهات كثيرة حتى تسأل عن تلك الوثائق، وليس من بينها للأسف دار الوثائق القومية، وعلى الباحث الذى يريد أن يكتب عن موضوع ما من هذه الموضوعات أن يرجع للأرشيف البريطانى والفرنسى وحتى الإسرائيلى لكى يكتب تاريخ بلده، وفى ظل هذه الفوضى الوثائقية تخرج كتابات غير دقيقة. ● وما مدى سيطرة جهات أمنية على إطلاع الباحثين على وثائق مصر؟ أعتقد أن خدمة البحث فى الدار وبشهادة الباحثين تطورت سواء فى الخدمة ذاتها كالاطلاع أو فى الإجراءات. ولو دخلت الآن سوف تشاهد ذلك من تسهيل على الباحثين وعدم سيطرة جهات أمنية بالمعنى المعروف فى ذهن وتصور القارئ. هناك إجراءات أمنية تنظيمية ليس أكثر. ● لكن عدة باحثين اشتكوا من قبل أن الأمن يرفض أن يطلع باحثون على وحدات الرى فى العصر العثمانى بحجة الحفاظ على الأمن القومى، فضلا عن عدم إتاحة أكثر من وحدتين أمام الباحث. لم يعد هناك الاقتصار على وحدة أو اثنتين. وتعليماتى، حيث إننى باحث فى الأصل، تؤكد أن الباحث الذى يدرس الرى فى مصر تحتاج دراسته إلى بعد اقتصادى واجتماعى وهندسى، لذلك من الضرورى أن يطلع على هذه الملفات التى تخص بحثه دون عائق. بعد هذه الإجابة رن جرس تليفون مكتبه أكثر من مرة، يستعجلونه لحضور اجتماع الدار، فلم نستكمل الحوار حول مسائل أخرى تحتاج إلى رد من الدكتور صابر عرب، مثل معارض الكتاب المصرية وإلصاق صفة «دولية» لها، وموقفه من المشاركة فى المعارض العربية التى ترفض الناشرين المصريين أو بعض الكتب الإبداعية، فضلا عن رؤيته لمعرض القاهرة الدولى المقبل الذى يقام بقاعة المؤتمرات، وما مدى مشاركة الناشرين الأجانب فيه وليس المراكز الثقافية ومكاتب القنصليات.