قد تسحق تجربة ما مثل السجن روح الكاتب وبدنه، فلا يعمد إلى تسجيلها بل ربما عمد إلى تجاهلها كأنها لم تكن. وعلى العكس من ذلك قد نجد تجربة ما تبهج روح الكاتب، وتنعش بدنه فيسرع إلى تسجيلها والانشغال دوما بها حتى إنه يصدر كتابا «مجلة» للاحتفاء بهذه التجربة. تجربة المكان إحدى هذه التجارب المهمة، لها فتنة خاصة ومذاق فريد، إذ تحتوى الكتابة التى تعنى ب«المكان» على وضوح ورهافة وحياة وسحر خاص لا تجده عند بقية الكتابات الأخرى. ثمة فجوة بل هوة تفصل بين كتابات تمنح المكان شهادة حياة ليكون بطلا وشاهدا على تحولات أبطال المجتمع وبين أخواتها من أنواع الكتابات الأخرى. فالكتابة التى تعنى بثقافة المكان شحنة إنسانية تخرج إلى النور ولا تنوى العودة، فتصبح كريشة تطير حتى آخر المدى. هذه التجربة، وتلك الفتنة حدثت للأديب علاء خالد صاحب مجلة «أمكنة»، التى تحتفل هذه الأيام بمرور عشر سنوات على تأسيسها وسط احتفاء ثقافى بها.. سألناه: لماذا تهتم بالمكان دون غيره؟ أجاب خالد: لم تكن عندى فكرة مكتملة للمكان بل كان اهتمامنا فى المجلة هو التجريب مع لغة الناس العادية. منذ عام 1990 وأنا أبحث عن تجربة مختلفة تثرى الواقع الثقافى، ولا تدخل تحت قائمة النمطية، ففى تلك الفترة كانت أشكال التعبير من قصة وشعر ورواية وتنظير اجتماعى، تنحو أكثر ناحية التجريب والتنظير الشكليين، وما يرتبط بهذا التجريب من حضور طاغٍ للفرد وعزلته عن المجموع. وكانت أشكال التعبير تلك لا تقدم العزاء لمن يبحث عن التواصل معها، لارتباط كل منها بحدودها الضيقة. بالطبع كانت هناك استثناءات. كان المجتمع فى تلك الفترة يتحرك فى اتجاه آخر بعد عدة ضربات ألمت به، وأولها حرب الخليج. وشعرت بأن صوت الكتابة قد خفت، وأن الواقع يتغير بصورة متسارعة. قد تكون المشكلة فى أن الكاتب غارق فى النوع الأدبى، الذى يكتبه ضمن (عبادات كهنوتية) أو أن المجتمع له إيقاع متسارع يجعلك خارج الزمن. ولذلك بدأت البحث عن فكرة جماعية لها صبغة وأسلوب خاص. وبعد ذلك بدأنا فى البحث عن فكرة تعيد هذا الصوت الغائب للمجتمع أو للناس. وأضاف خالد أنه ذكر أكثر من مرة فى ندوات وحوارات صحفية أنه: مثلا فى العدد الأول الذى كان مخصصا عن الإسكندرية، نظرا لأننا نعيش فى تلك المدينة، ذهبنا لأحد الأسواق القديمة فى المدينة، السوق الفرنساوية والتى كان يعيش فيها الأجانب مع المصريين، وأجرينا مجموعة من الحوارات المطولة بالعامية مع المصريين الذين عايشوا الأجانب، وسألناهم عن تلك العلاقة الخاصة أو الملتبسة، التى كانت تجمعهم بالأجانب. كل منهم أدلى بحكاية، ليس فقط عن علاقته بالأجانب، بل أيضا عن حياته الشخصية، وعتباتها، وعلامات الزمن الذى عايشوه. كتبنا فى مقدمة العدد الأول «ربما هناك إحساس أو حدس الآن يشير إلى أن دخول الحياة من باب الحكاية أو السرد هو فى حد ذاته رغبة فى عدم وضع نهاية مأساوية، فالحكاية ما زالت مستمرة، ربما فى تضاعيف الحكاية نفسها تكمن شروط لعمل جدل مع الحياة، شروط كانت مهملة من قبل فى شكل السرد وفى حياة الأبطال أنفسهم، إنها حكاية على الحكاية القديمة». وفى العدد الثانى ذهبنا إلى «مارجرجس» والتقينا بمجموعة كبيرة من الأقباط فى مصر القديمة. استمر عملنا معهم نحو ثلاثة أسابيع، وكانت أسئلتنا عن كيفية رؤيتهم للحياة وهم ملاصقون للمقابر أو داخلها. وعن صدور المجلة من الإسكندرية، قال خالد فى أحد مؤتمرات كلية الاقتصاد والسياسة جامعة القاهرة: «ابتعدت المجلة عن مركزية القاهرة، بالرغم من أهميتها؛ لأن مركزيتها جاءت نتيجة لفكرة سياسية بدأت تتآكل، وأى حكاية لا يمكن أن يستوعبها مكان واحد أو مدينة واحدة. سعينا إلى الأطراف لاستكمال ملامح الحكاية، فى محافظات الصعيد وسيوة، والإسكندرية، والدلتا، لسؤال الناس عن حياتهم، وجعلهم يتكلمون بأنفسهم أو يكتبون، تبعا لموضوع العدد، عن خبراتهم. كان هناك شبه تعمد لوجود تمثيل واسع لمحافظات مصر المنسية داخل المجلة، وربما هذا خدم المجلة من ناحية طزاجة حكاياتهم، وخصوصيتها، وخصوصية لغتها. هذا التنوع فى الحكايات وفى الأماكن الجغرافية جعل فكرة السفر والرحلة من أهم سمات المجلة». لكن استدرك خالد فقال إن هذا ليس معناه أننا بعيدون عن القاهرة، وأوضح أن توزيع المجلة ينتعش فى القاهرة (600 نسخة) لا الإسكندرية (250 نسخة). ومن أين يأتى التمويل؟ قال خالد: «لا يوجد تمويل، بل هى مجهودات شخصية». بل إن أمكنة تعانى من عدم تبنى أى جهة حكومية لها، وكان صندوق التنمية الثقافية يشترى 100 نسخة شهريا ثم رفض الشراء دون إبداء الأسباب. وفشلت فى لقاء وزير الثقافة لبحث المشكلة. تطبع المجلة 1000 نسخة، وفى أول أربعة أعداد تعثرنا بعض الشىء لكن حدث بعد ذلك أن تنبه الناس لقيمة ما نقوم به من جهد. لكن حل التمويل هو البحث عن إعلانات كالتى تقدمها لنا دار الشروق.