وهو صغير، كان يؤمن بأن سائق الترام يعتبر أهم رجل فى العالم، ولم لا؟. إذا كان يستطيع قيادة ذلك الوحش العملاق الذى يمر بضجيجه وأسطوريته فى شارعهم قرب جامع السلطان حسن. لذلك تمنى أن يصبح مثل بطله، سائق الترام عندما يكبر؛ ولكنه لم يستطع تحقيق حلمه، لم يستطع حتى تعلم قيادة السيارات، وشاء القدر أن يتعلم الرسم، فيصير «مجرد رسام».. ولم يحزن، لأن مهنته أتاحت له أن يرسم نفسه وهو يسوق الترام، والرسمة طبعت بكتاب حاز جوائز عالمية. لن نكون منصفين إذا اعتبرنا أن كتاب «كشكول الرسم»، الذى أنجزه محيى الدين اللباد هو حكى من الذاكرة عن مواقف قابلته فى الطفولة، فهذا لا يحدث مع المبدعين، وإنما هى حالة وجدانية خالصة، حيث تأتيك المواقف، وتمر الأيام ومواقفك محبوسة داخلك، وبعد فترة، تكتشف أنها كانت علامات على ما سيحدث. وقتها تكون قد لعبت بشكل ما فى روحك، واختلطت بخلاياك، وقررت أن تخرج منك إلى غيرك، ولكن لأنها ليست لعبة الذاكرة وحدها، فإن مواقفك تخرج فى صور شديدة العمق، خصوصا لو حكيتها بعادية، ومن القلب، لذلك جاء الكتاب الصادر عن دار الشروق على المستوى الذى يستحق معه الكاتب والناشر أن يحصلا على جائزة «التفاحة الذهبية» لبينالى براتسلافا الدولى، وجائزة الأوكتوجون الفرنسية. وبالطبع فإن الأمور ليست سهلة، ولا تأتى بمجرد قرار، فعندما كان محيى طفلا، قرر والده أن يعطيه مصروفه الشهرى دفعة واحدة، كى يعلّمه تحمل المسئولية، لم يكن يعرف أن ابنه يحلم بأن يؤلف الحكايات ويرسمها. لم يحسب الابن الحسبة جيدا، كما هيئ له وقتها، وذهب على الفور إلى محل الكتب، واشترى بمصروفه دفترا صغيرا أحمر، «كان دفترا جميل اللون والملمس، وكانت رائحته أيضا طيبة». ظل يخبئ دفتره نهارا كى لا يتعرض للتوبيخ من والده، ويخرجه ليلا بعد أن ينام الجميع، يستمتع بالفرجة عليه، ولمسه، ويفكر فيما سيكتبه، بخياله، حكايات كثيرة، لكنه لم يستطع أن يخط على دفتره السرى أيا منها. فظل محتفظا به خاليا، وعندما كبر قررت الحكايات أن تخرج بعدما استوت، فأفسح لها الطريق وصارت مخطوطة ومرسومة، وأصبح صاحبها من أشهر صانعى الكتب. كان يشعر بالصور والرسوم والكتابة لدرجة الاستنشاق. لا تندهش، فالعلاقة بين الفنان والمتلقى علاقة تبادلية بحتة، فى «كشكول الرسم» تجد صورا ورسوما وطوابع بريد، كان يهوى جمعها وهو صغير، ورغم أنها تبدو ساذجة، كما يقول، إلا أن كثرة رؤيته لها جعلتها تصبح جزءا من ماضيه، وباتت تذكّره بفترات مضت من العمر. وكان يستطيع أن يشم رائحة ما تحويه هذه التذكارات، فهذه صورة لرجل يجلس على كرسى، وبجانبه فاترينة بها مجموعة من أوانى الزهور الخالية، كّتب عليها اللباد «هذه الصورة أشم فيها رائحة ماء الورد». وكتب على صورة لأحد المساجد: «أشم فيها رائحة اللوز الأخضر برائحة خشب قديم مبلل بالماء». إن تأملات محيى اللباد فى حد ذاتها تستحق التأمل، يأتيك هذا الشعور وأنت تقلب صفحات كتابه «مُلاحظات»، فرغم أنه كتاب نظرى إلى حد ما، إلا أنك سوف تجد زوايا جديدة لرؤية بعض المشاهد التى تقابلك بشكل يومى، زوايا التقطتها عين صانع كتب، وشرحت تاريخها وأسباب اختراعها، مثل المشربية، «ذلك التركيب الدقيق من قطع الخشب المخروطة، والذى يوضع فى الفتحات التى يدخل منها نور النهار إلى داخل البيوت والمبانى»، كما تحدث عن بعض الأشكال الهندسية ذات الصفات الخاصة، مثل الدائرة، أحد أشكال التراث الهندسى الهائل الذى ورثه المهندسون العرب عن أسلافهم المصريين والعراقيين، لتساعدهم فى ابتكار عمارة إسلامية فريدة تميزت بالنقوش والزخارف، سماها الأجانب «أرابيسك». لم تقف التأملات عند هذا الحد، بل إن عين المبدع عادة ترى كل ما هو جميل حتى فيما لا يلفتك.. ففى إحدى عطلاته على شاطئ مطروح، لفت نظره مدى انتشار القمصان والتيشيرتات المطبوعة التى يرتديها الشباب والفتيات، واندهش لتنوعها، من حيث الأشكال والموضوعات والكتابة المطبوعة عليها، «رسوم وصور ونقوش وعبارات وماركات تجارية من كل شكل ولون»، وآلمه أن يكون أغلبها أجنبيا ومستوردا، أو مقلدا تمت طباعته فى بلادنا كمحاولة للمحاكاة، فعاد من عطلته مهموما بالمسألة، وجاء كتابه «تى شيرت»، ليعرفنا بأصل حكايته، وتطوره قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، وكيف بدأت الطباعة على الملابس بوسائل بدائية بهدف نشر بعض الشعارات السياسية، وطرح عدة أسئلة فلسفية تتعلق بفهمنا لما نرتديه، وهل الحروف الأجنبية أجمل من حروفنا العربية، وكيف أن خطنا العربى أجمل بكثير من الخطوط الأخرى، وكانت مبادرة محترمة للإبقاء والحفاظ على تراثنا الغنى الذى يبهر العالم ولا يبهرنا. أيضا، من الكتب المهمة التى قدمها الفنان، «حكاية الكتاب»، ورغم أنه جاء بشكل مبسط وصفحات قليلة، إلا أنه يستطيع منافسة مراجع علمية كبيرة تناولت نفس الموضوع، وكيف لا؟. فمؤلفه صانع كتب.. وهو كتاب «باين من عنوانه»، حيث يحكى قصة تطور الكتاب منذ كان مجرد لفافة بردى إلى أن أصبح إلكترونيا مدمجا فى قرص ليزر، وهو ككل أعمال اللباد، مدعم بمجموعة هائلة دالة من الصور التى توضح كيفية هذا التطور، من البردى إلى رقّ الغزال، مرورا بالورق والكتاب الملفوف، وإسهام شعوب العالم الآسيوى فى محاولات الوصول إلى شكل سوى للكتاب، ثم شرح تفصيلى لعملية النسخ وتطورها، والطباعة بالخشب المحفور، حتى الوصول إلى أول آلة طباعة، التى اخترعها «جوتنبرج» عام 1450، باستلهام تصميم آلات عصر الزيتون والعنب الشائعة فى الريف الأوروبى آنذاك، ثم كيفية تطور الأمر إلى المطابع العملاقة، إلى أن تنبأ بالجدل القائم هذه الأيام حول المنافسة بين الكتاب الورقى ونظيره الإلكترونى. ولأن العاشق دائما ما يستغرق فيما يحب حتى آخر المدى، لم يمل اللباد من البحث والتأمل فى العلامات والصور والأشكال، وجاء كتابه «لغة بدون كلمات العلامات. الإشارة. الرمز»، ليطلعنا بسلاسة على العلامات القديمة التى كانت لها معنى لغوى فى حقب بعيدة، وكيف رسم إنسان ما قبل التاريخ حياته وصور مشاعره، فكان ينقش ما يعبر عن فرحته بانتصاره على الحيوانات البرية مثلا، أو يحكى بالصورة شعوره بالخوف منها، ثم يشرح الكاتب كيف تحولت هذه الصور إلى لغة للكتابة على غرار الحروف الهيروغليفية، والهيراطيقية، وينتقل بنا إلى لغة التخاطب عن طريق إشارات الأيدى والوجه. حكايات مكتوبة ومرسومة، سواء فى كتب ألفها أو صمم أغلفتها، ستظل باقية تخلد اسم صاحبها، ولكنها بالطبع لن تعوّض أصدقاءه حضوره الإنسانى، سيفتقدون صاحبهم الرائق، ذا الطلة الحلوة، خاصة وأن هذا العام شهد رحيل الكثير من رموز الثقافة العربية دفعة واحدة، وبشكل غير مسبوق فى تاريخ العرب تقريبا. نظرة إلى هذه الكتب، نعرف منها كيف كان الرجل راهبا فى محراب الكلمة والصورة، نظرة تفسر لنا ما هى طبيعة النقلة التى أحدثها محيى اللباد فى صناعة الكتاب، وترينا كيف أن الحياة دون تأمل.. هى حياة عابرة، ولا معنى لها.