قدم العقيد معمر القذافى هدية ثمينة للغاية إلى أعداء العرب والمسلمين، حين دعا فى إيطاليا إلى أسلمة أوروبا. ذلك أنه سلمهم اعترافا علنيا يؤيد مسعاهم لإشاعة الهلع فى أوروبا من قدوم شبح الأسلمة، التى يدعون أنها ستقلب أوروبا رأسا على عقب، وتحولها إلى ما يسمونه «أورابيا» أو أوروبا العربية. لا أعرف إن كانت المنظمات اليمينية والفاشية التى تثير ضجيجا فى أوروبا بسبب التخويف من الأسلمة قد بعثوا إلى الأخ العقيد ببرقية شكر أم لا. لكننى لا أشك فى أن الجاليات المسلمة فى أوروبا التى تضم ما بين 20 و25 مليون نسمة، هى أكثر من صدمتها الدعوة وخيبت آمالها. لست أخفى أننى لم أفهم حتى الآن لماذا فعلها العقيد، الذى بدأ ثوريا رافعا لواء العروبة، ثم خاب أمله فى العروبة فتحول بعد ذلك إلى الأفريقانية، وظهر لنا أخيرا فى ثوب المبشر والداعية الإسلامى حين زار روما فى ذكرى توقيع اتفاقية الصداقة الليبية الإيطالية فى 30/8/2008. ولا أعرف إن كان قد صدَّق أنه صار فعلا ملكا للملوك فى أفريقيا ولذلك تطلع لأن يمد نفوذه ليصبح خليفة للمسلمين فى أوروبا وليس فقط وليا لأمرهم فى ليبيا. لكن الذى أعرفه أن أحدا لم يأخذ كلامه على محمل الجد، حتى أن مضيفه رئيس الوزراء الإيطالى بيرلسكونى اعتبر كلامه عن أسلمة أوروبا من قبيل «الفولكلور»، وقد قالها ضاحكا كما لو أنه كان يتحدث عن مزحة أو نكتة. وهو لم يخطئ كثيرا، لأنه حينما يطلب من وكالة للمضيفات أن تدعو 300 فتاة إيطالية (فى رواية أخرى 500) للقاء الأخ العقيد، وحين يدفع لكل واحدة 80 يورو للاستماع إليه، فإننا نصبح بصدد مشهد فولكلورى بامتياز. وحين يحاول العقيد أن يقنعهن بمزايا الإسلام للدخول فيه، ويهدى كل واحدة منهن مصحفا، ثم يدعوهن إلى الاقتران بالليبيين فى نهاية المطاف (هل لهذا السبب لم توجه الدعوة للرجال الإيطاليين؟)، فإن العرض يظل محتفظا بطابعه الفولكلورى. وبالمناسبة فإننى لم أجد تفسيرا منطقيا لتلك الدعوة الأخيرة، إلا إذا كان العقيد قد تصور أنه بذلك يمكن الليبيين من الدخول إلى الدنيا مقابل تمكين الإيطاليات من الدخول إلى الجنة. لقد أطلق الأخ العقيد دعوته فى معقل الكاثوليكية فى العالم، مما جعلها تستقبل بردود وتعليقات تراوحت بين الاحتجاج الغاضب والسخرية المهينة. وكما ذكرت توا فإنه ثبت الحجة التى يرددها الكارهون للعرب والمسلمين فى أنحاء أوروبا للتخويف من فكرة الأسلمة. التى تتهدد هوية القارة جراء تزايد أعداد المسلمين وانتشار المساجد. الأمر الذى دفع ممثليهم إلى المطالبة بالتخلص من المسلمين والتضييق عليهم فى مساجدهم وأزيائهم. وهو ما عبرت عنه ممارسات عدة فى فرنسا وألمانيا وسويسرا وهولندا...إلخ. كما عبرت عنه كتابات بلا حصر، على رأسها كتاب «آراء حول الثورة فى أوروبا»، الذى أصدره فى العام الماضى كريستوفر كالدويل. محرر صحيفتى «الفينانشيال تايمز» وال«ويكلى ستاندارد»، والذى تحول إلى مرجع للهجوم على الوجود العربى والإسلامى. ذلك أنه أرجع الاضطرابات التى حدثت فى أوروبا وفرنسا خلال السنوات الأخيرة بوجه أخص إلى وجود المسلمين فى رحابها. والحاصل فى أوروبا له نظيره المضاعف فى الولاياتالمتحدة، التى لاتزال ذكرى أحداث 11 سبتمبر ماثلة فى مخيلة أبنائها، الأمر الذى أحدث موجات متعاقبة من حملات النفور من الإسلام وبعض المسلمين، وهى الحملات التى تأججت فى الآونة الأخيرة بعد الإعلان عن مشروع إقامة مركز إسلامى متعدد الاختصاصات فى نيويورك. على بعد مائتى متر من موقع البرجين اللذين تم تفجيرهما فى الحادى عشر من سبتمبر. وبلغت ذروته حين دعا أحد المتعصبين المهووسين فى ولاية فلوريدا (القس تيرى جونز راعى كنيسة باسم دوف) إلى حرق المصاحف فى ذكرى 11 سبتمبر. فى هذا الجو القاتم، أعنى فى المكان الغلط والزمان الغلط، وجه الأخ العقيد دعوته إلى أسلمة أوروبا. وإنا نحمد الله على أنه لم يطالب بتعميم الكتاب الأخضر على الأوروبيين، إلا إذا كان قد ادخر ذلك إلى مرحلة تالية بعد الاطمئنان إلى «هدايتهم»، فأخشى ما أخشاه أن يدعو الإيطاليات الثلاث اللاتى تحولن إلى الإسلام بعد قبض المعلوم وتسلم المصحف إلى زيارة ليبيا، للاطلاع على «النموذج» المطلوب من «المؤمنين» الأوروبيين السير على هداه ولأن ذلك الاحتمال ليس مستبعدا، فإننى أقترح على الأخ العقيد أن يبدأ بأسلمة ليبيا قبل أسلمة أوروبا. ولا أعنى بالأسلمة هنا تلبيس النساء الطرح وإلزام الرجال بإطلاق لحاهم، ولكن أعنى العمل على تحقيق مقاصد الشريعة فى إقامة العدل وإشاعة الحرية والحفاظ على كرامات الناس وتأمينهم.