فى الأسابيع الماضية، أعلن بول ألين الذى أسس مايكروسوفت مع بيل جيتس عام 1975 اعتزامه التبرع بنصف ثروته البالغة 13.5 مليار دولار من أجل العمل الخيرى. وفى الشهر الماضى، دعا كل من السيد جيتس وزوجته ميليندا والمستثمر وارين بافيت مليارديرات العالم إلى إعلان «تعهد العطاء» أى الوعد بتقديم نصف ثروتهم إلى العمل الاجتماعى. وكان السيد ألين هو خامس المستجيبين لهذه الدعوة. ويعتبر نطاق العمل الخيرى الذى أطلقته تلك المبادرة غير مسبوق. ويتبرع السيد بافيت سنويا بالفعل بنسبة 5% سنويا من أسهم شركة بيركشاير هيثاواى لأجل العمل الخيرى. كما أنه قد تعهد بالتخلى عن 99% من ثروته. وأعرب معظم قراء مجلة فورتشن التى نشرت فكرة «التعهد بالعطاء» عن سعادتهم بالفكرة. (وكتبت المقال الذى اتخذ صيغة البيان الصحفى كارول لوميز، وهى صديقة قديمة للسيد بوفيه وشريكة السيد جيتس فى لعبة البريدج). لكن أكثر ما يدعو للدهشة فى مئات التعليقات على موقع المجلة على الإنترنت، كان مستوى الغضب الذى ظهر فى الكثير منها. وذكر أحد التعليقات السلبية التى ظهرت بصورة متكررة «أظن أن السيد جيتس سوف يمنح كل أمواله إلى الهند، حيث إنه مغرم بشدة بمنح هذا البلد جميع وظائف محللى ومبرمجى نظم الكمبيوتر الأمريكية». وربما يكون الزوجان جيتس والسيد بافيت قد أساءوا تقدير المزاج العام. ذلك أنهم عندما فتحوا محافظهم، فقد فتحوا جدلا حول ما إذا كان من الصواب أن يكون لديهم فى البداية كل هذا المال. وعلى الرغم من أن التفاوت المادى فى أمريكا يفوق نظيره فى أى بلد غربى آخر، فإن الأمريكيين أكثر تسامحا مع هذا الوضع مقارنة بغيرهم. وربما يكمن تفسير ذلك بالنزعة شديدة المادية لدى الأمريكيين، حيث يربطون بسذاجة بين المال والقوة الشرائية أكثر من أى شىء آخر. فإذا كان المرء لديه 50 مليار دولار، فإن ذلك يعنى أن بوسعه إذا أراد شراء 50 مليون تليفزيون ذى شاشة مسطحة، أو مليون سيارة مرسيدس من طراز إم كلاس. وليس فى ذلك ما يبعث على الغيرة. لكن الأمريكيين لديهم حساسية مفرطة إزاء تحول المال إلى قوة سياسية. وبالرغم من أن أصحاب الشركات الذين يمثلون جماعات الضغط يعتبرون ضرورة لأية دولة ديمقراطية حديثة تعمل بكفاءة، فإنهم يبدون فى خيال الجمهور مجرد أوغاد. وفى يناير، ألغت المحكمة العليا الأمريكية القيود على تمويل الشركات للحملات الانتخابية. ومع أن هذا القرار كان صائبا انطلاقا من مبدأ حرية التعبير، فقد أدى مع ذلك إلى انقسام الرأى العام. وانتقد الرئيس القرار فى خطابه حول حالة الاتحاد. وإذا كان هناك ثمة مشكلة فى استخدام رجال الأعمال أموالهم لتمويل الحملات الانتخابية، فتوجد مشكلة أكبر فى استخدام هؤلاء أموالهم فى ممارسة الحكم. غير أن الحكم عن طريق الأموال هو ما يفعله العمل الخيرى فى الوقت الراهن. فلا يكاد يكون هناك من المليارديرات من «يتنازلون» عن أموالهم، بما يعنى التنازل عن السيطرة عليها. وإنما ينشرون هذه الأموال عبر مؤسسات معفاة من الضرائب لغايات من اختيارهم، وهو ما يلحق آثارا ضارة بالديمقراطية، بصرف النظر عما يعتقده الملياردير المتغطرس من نبل أغراضه. وعلى سبيل المثال، تعهدت مؤسسة جيتس بتقديم 650 مليون دولار للمدارس، خلال السنوات الأخيرة. وقدمت المؤسسة ملايين الدولارات للولايات كل على حدة، كى تساعدها فى التنافس من أجل الفوز بجوائز برنامج «السباق نحو القمة» التابع للحكومة. كما قدمت المؤسسة 100 مليون دولار فى صورة منح إلى هيلزبورو كاونتى فى فلوريدا من أجل تطوير مستويات التدريس لديها. ربما تكون هذه أفكارا ممتازة (فقد استطاع المدرسون الإفلات من المساءلة المفرطة منذ أن انتظموا بحماس فى نقابات خلال سبعينيات القرن العشرين)، لكن مكاسب التعليم تعتبر خسارة للديمقراطية، حيث تؤدى الثروة الخاصة إلى التضخيم من السلطات الحكومية، بما يتجاوز ما يسمح به الدستور. كما يمكنها أن تؤدى إلى تشويه الدوافع وحث السلطات على العزوف عن تطبيق اللوائح والقوانين ضد المتبرعين. وفى يونيو، قال السيد جيتس إنك إذا ارتكبت أخطاء مستخدما أموالك الخاصة، «فإنك لن تشعر بالاستياء تجاه ذلك بالدرجة نفسها التى سوف تشعر به لو كانت هذه الأموال تخص شخصا آخر». ولعل المشكلة تكمن فى أنه عندما تتعاون المؤسسات الخيرية مع الحكومات، ينتهى الأمر بإقحام أموال دافعى الضرائب أيضا. وكثيرا ما يتحدث السيد جيتس عن أهمية «حشد» استثماراته، بينما تحدث السيد بوفيه عن المليارديرات الآخرين قائلا «إذا استطعت أن تبين لهم كيفية حشد أموالهم.. سوف يلقى قبولا». ويرى السيد جيتس أن للمليارديرات دورا شبه رسمى فى صنع القرار فى أى نظام دستورى حديث. ويقول إن هناك المحسنين من ناحية، والديمقراطية من ناحية أخرى. كما قال لتشارلى روز، مقدم أحد البرامج الحوارية: «لدينا نظام مختلط فى الولاياتالمتحدة. وتعتبر الحكومة وقطاع المنظمات غير الحكومية مكملين لبعضهما البعض على نحو ما. ولا توجد أجندة فيما يخص تعهد العطاء». غير أن المليارديرات من فاعلى الخير لديهم مصلحة مشتركة (مصلحة طبقية) فى تعظيم السيطرة والقوة وإن تباينت اهتماماتهم الخيرية. ويضع تعهد العطاء المليارديرات الذين يسعى إلى التأثير فيهم فوق قمة منحدر زلق. وإذا لم يكن مقدرا للتعهد بالعطاء أن يصبح مجرد رطان أجوف، فيجب عليه أن يسفر عن ضغوط من جانب المليارديرات من أجل إقناع أقرانهم بأن هناك خطأ ما فى احتفاظهم بالقدر الأكبر من ثروتهم. وتُعد الاعتبارات السياسية أكثر حسما من الاعتبارات الأخلاقية. وإذا قام جميع المليارديرات ممن على قائمة فوربس التى تضم أغنى 400 شخص فى العالم بالتخلى عن نصف ثرواتهم، فسوف نجد لدينا 600 مليار دولار. وحتى وقت قريب، لم يكن متاحا للناخبين ضخ هذه الثروة فى صورة ضرائب. ولكن حدث تغييران، أولهما أن دافعى الضرائب الأمريكيين من ذوى الموارد المالية المتواضعة تعهدوا رغما عنهم، عن طريق خطط الإنقاذ والتحفيز بدفع ما يزيد كثيرا على 600 مليار دولار، من أجل حماية اقتصاد تسبب لهم فى الكثير من الضرر، ولرجال المليارديرات فى الكثير من النفع. ثانيا، تضاءلت إلى حد كبير سرعة الاختراعات المتعلقة بالتكنولوجيا العالية. وعندما تتوقف دجاجة رواد الأعمال عن وضع بيض الذهب، تضعف كثيرا القضية السياسية المدافعة عن عدم الاقتراب من ثروة هذه الدجاجة. وسوف تضعف هذه القضية أكثر حال تقديم معايير جديدة، يشعر الأغنياء فى ظلها أنهم لم يرتفعوا إلى مستوى التوقعات.