مرة أخرى علينا أن نتساءل لماذا الإلحاح الأمريكى «الإسرائيلى» على الدخول فورا فى عملية المفاوضات المباشرة؟ من المسلم به أن المباحثات التى جرت بين الرئيس أوباما ونتنياهو أدت إلى تراجع فى الموقف الأمريكى المعلن قبل اللقاء. كما أن المصطلحات التى استعملت هذه المرة دلت على أن «الواقعية» فى العمل السياسى، خصوصا أن الولاياتالمتحدة تواجه فى الخريف المقبل انتخابات نصفية كانت طاغية، فى حين همشت التوجهات الواعدة نسبيا التى وردت فى العديد من خطب الرئيس أوباما فى مستهل عهده. نشير إلى غلبة الانتهازية على المنحى المبدئى كوننا توقعنا أن بوادر اختراق فى نهج التعامل مع القضية الفلسطينية سوف تتسم بصيغة توفيقية بين ضرورة الواقع وتسريع جدا ومعقول لمستلزمات ما يمليه القانون الدولى وقرارات الأممالمتحدة التى تؤكد حق الشعب الفلسطينى فى تقرير مصيره. إلا أن التراجع الذى حصل يكمن فى سقوط المطلوب والرضوخ لشروط ترسيخ مطالب حتى لا نقول: إملاءات حكومة نتنياهو. هذا ما بدا خلال التحضير لزيارة نتنياهو والإصرار على إزالة أى انطباع عن «سوء تفاهم» بين أوباما ونتنياهو، والتأكيد المتواصل لالتزام الولاياتالمتحدة ب«أمن إسرائيل» والتناغم المستمر بين التحريض «الإسرائيلى» على إيران وترحيب اللوبى «الإسرائيلى» بالعقوبات الجديدة والقاسية على إيران، ومن ثم اعتذار أمريكى عن عدم التوقيع على ما صدر من دعوة للالتزام باتفاقيات عدم انتشار الأسلحة النووية، خصوصا أن المجموعة العربية فى الأممالمتحدة نجحت فى تسمية «إسرائيل» لأول مرة فى بيان وكالة الطاقة الذرية. أجل وجدنا أن ما تم من توافق بين أوباما ونتنياهو هو عودة إلى نقطة البداية التى تلخصت فى دعوتهما السلطة الفلسطينية للدخول فورا فى «المفاوضات المباشرة» وكأن الإدارة الأمريكية نسيت أو تناست أنها هى التى طالبت وتجاوبت الجامعة العربية معها وأعطت فرصة أربعة شهور «للمفاوضات» غير المباشرة كى تمهد ل«مفاوضات» مباشرة عندما تتضح بنود الاتفاق النهائى. ماذا حصل حتى يتجاوب أو بالأحرى يستجيب الرئيس أوباما لطلب نتنياهو العودة إلى مفاوضات مباشرة؟ هل صارت بنود وشروط المفاوضات المباشرة واضحة وأكيدة ولا يشوبها أى غموض أو التباس؟ هل لدى الرئيس أوباما ومبعوثه جورج ميتشل دلائل على أن حكومة «إسرائيل» تلتزم صيغة حل الدولتين، بمعنى أن فلسطين دولة ذات سيادة كاملة على ما تبقى من فلسطين التاريخية أرضا وجوا ومياها إقليمية؟ هل هناك ضمانات مسبقة بأن المستوطنات سوف تفكك وأن المياه الجوفية فى الأراضى المحتلة سوف تخضع للسيادة الفلسطينية؟ هل تمكن الرئيس أوباما من طمأنة الرئيس محمود عباس أن القدسالشرقية سوف تكون عاصمة دولة فلسطين؟ كانت «المفاوضات» غير المباشرة هى الإطار الذى يوضح ويجيب عن هذه الأسئلة قبل الدخول فى «المفاوضات النهائية المباشرة». الجواب جاء أثناء دعوة كل من الرئيس أوباما ونتنياهو إلى الدخول فورا بمفاوضات مباشرة، وكأن التفاوض بالنسبة ل«إسرائيل» يعنى رسوخ مفهومها «للدولة» وتهويدها المتواصل للقدس الشرقية ولما تشكله المستوطنات وهو دليل على حق التملك بالقوة والاحتلال وليس خرقا لاتفاقيات جنيف الرابعة. مرة أخرى علينا أن نتساءل لماذا الإلحاح الأمريكى «الإسرائيلى» على الدخول فورا فى عملية المفاوضات المباشرة؟ فى هذا الشأن نجد بعض عناصر الإجابة واردة فى افتتاحية «الواشنطن بوست» يوم 8 يوليو حيث كتبت «... إن علنية الضغط على «إسرائيل» دفعت نتنياهو إلى القيام بتنازلات مهمة (لاحظ تنازلات) بمجرد قبوله (أى نتنياهو) لأول مرة دولة فلسطين وفرض تجميد للمستوطنات لعشرة أشهر». «تنازل» عن ماذا؟ تمرير هذا المصطلح وكأنه مصطلح عادى يؤكد أن تآكل الأرض الفلسطينية من خلال الاستيطان «الإسرائيلى» هو حق فى حين أن التسليم بأن ما تقوم به «إسرائيل» هو «تنازل»، ولكن تنازل عن ماذا؟ ثم تواصل «البوست»: «إن أوباما حاول قبلا أن يدفع بتراجعات إضافية ل«إسرائيل» فى القدس وهو ما أدى إلى حركة ارتجاعية فى واشنطن و«إسرائيل» الأمر الذى شجع الفلسطينيين على التمسك بمطالبهم». ماذا تعنى حركة ارتجاعية فى هذا الصدد؟ إنها تعنى مزيدا من القوة لليمين «الإسرائيلى» وتعزيز التشدد فى موقف «إسرائيل» كما فى تنشيط ضغوط الكونجرس للكف عن «الضغط على «إسرائيل». وانتهت افتتاحية «البوست» بأن على «عباس (الرئيس الفلسطينى) أن يدخل فى المفاوضات المباشرة أو أنه «غير معنى بالسلام». وأضافت أن نتنياهو يريد ضمانات بأن الضفة لن تشكل تهديدا لأمن «إسرائيل». ماذا يريد محمود عباس «سوف يعرف عندما يدخل المفاوضات المباشرة»، هكذا يصبح القفز الذى يدعو إليه أوباما نتنياهو هو المصيدة الخانقة والمزيد من التآكل فى حقوق وأرض فلسطينالمحتلة. وقد أكد نتنياهو أنه سوف يجتمع بالرئيس مبارك لتوضيح سياساته فى هذا الشأن وما آلت إليه مباحثاته مع الرئيس أوباما. سهولة التصريح الذى أدلى به نتنياهو بهذا الشأن يجب أن تولد قلقا حقيقيا خاصة أن المقابلة فى مثل هذا التوقيت ستضفى قدرة لدى «إسرائيل» على تسويقها وكأن الدول العربية قبلت سلق «المفاوضات» حيث وضعت الفريق الفلسطينى أمام وضع يكتنفه الغموض بحيث إن التفاوض يفترض اتفاقا مسبقا على النتائج وتكون المفاوضات على مراحل والقيد بآلية ضامنة كما اتفق عليه قبل المفاوضات المباشرة. لذا قد نشاهد فى المستقبل القريب محاولات أمريكية ضاغطة على دول عربية لتشجيع السلطة الوطنية على الرضوخ مرة أخرى لاجترار عبثى كما حدث منذ أوسلو، وبالتالى يتم عمليا فقدان ما تبقى لفلسطين من عناصر القضية المركزية. إذا ما العمل؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال الذى من الصعوبة بمكان الإجابة عنه نظرا للأوضاع الراهنة إلا أن نتنياهو أضاف إلى مصطلحاته التى روج لها أثناء زيارته مفردات إضافية أثناء خطابه يوم الخميس الماضى فى مجلس العلاقات الدولية فى نيويورك قبل عودته إلى «إسرائيل» أنه «مستعد للمفاوضات المباشرة الأسبوع المقبل»، وقال إنه «مستعد للمخاطرة سياسيا فى سبيل إنجاز السلام». هكذا نجد أن نتنياهو ليس مستعدا لأن يقوم «بتنازلات أليمة فحسب» بمعنى تجميد المستوطنات بناء على طلب سابق من الرئيس الأمريكى بل أضاف أنه مستعد «للمخاطرة السياسية». لكن نتنياهو لم يشر فى خطابه أمام مجلس العلاقات الخارجية إلى أى استعداد لتمديد آخر لتجميد المستوطنات مؤكدا القول «عملنا بما فيه الكفاية». ثم أنهى بأنه «بحاجة إلى شريك» وعندما سئل عن الرئيس عباس أجاب بشكل فاتر: «إننى لن أسقط هذا الخيار من إمكانية القيادة». فى هذه الأثناء وفى مقابلة للرئيس أوباما مع تلفزيون «إسرائيل» أكد أن «نتنياهو يمكنه القيام بإنجاز السلام مع الفلسطينيين»، وأضاف أن هذا ممكن رغم المعاناة والصعوبات والقلق. إن السلام ممكن أثناء رئاسته. ثم أضاف أن قلق «إسرائيل» على أمنها ناتج عن تجربة انسحاب «إسرائيل» من غزة كونها تعرضت لصواريخ، ومن جنوب لبنان أيضا، كما وصف «شكوك «إسرائيل» و«مخاوفها» بأنها «شرعية» وبالتالى «هذه هى الفرصة المتوافرة للمفاوضات المباشرة». إزاء هذه التطورات المستجدة واستمرار تقليص وحتى إزالة الوعود الأمريكية السابقة يبقى السؤال: ما العمل؟ أولا ألا نبقى بحالة اللا شىء. بداية ألا يتم اللقاء المزمع القيام به بين نتنياهو والرئيس مبارك قبل أى اجتماع جدى وعاجل على أعلى مستويات صانعى القرار وصانعى الرأى، إضافة إلى مشاركة حاسمة من شرائح المجتمعات المدنية العربية وتحرك دبلوماسى وإعلامى عاجل وبالتالى تعبئة عربية لسياسة واحدة كى لا تبقى «إسرائيل» منفلتة من أى كلفة لها وتبقى مستمرة بالتمدد الاستيطانى وتهويد القدس، وتبقى حقوق الشعب الفلسطينى معلقة، كما هى الآن رغم تنامى الاحتضان الدافئ العالمى لعدالة قضية العرب المركزية، فلسطين المعذبة. ما العمل؟... التحضير للعمل فورا.