اليوم تحسم ركلة الكرة الأخيرة كأس العالم، غير أن الشعور بالارتياح فى جنوب أفريقيا بات ملموسا بالفعل. فطوال الشهر الماضى، وضع البلد نفسه فى موضع الاختبار عبر استضافته أكبر حدث رياضى عالمى. وكان الجنوب أفريقيون تواقين لأن يظهروا للغرباء أن بلدهم آمن ومضياف ومتقدم. لكنهم أرادوا أيضا أن يثبتوا لأنفسهم شيئا، وهو أن أمتهم التى مازالت منقسمة بشكل حاد لأسباب عرقية، بإمكانها أن تتوحد حول تنظيم بطولة ناجحة. الأمر المتفق عليه بوجه عام هو أن بطولة كأس العالم كانت انتصارا لجنوب أفريقيا. فالملاعب مذهلة، وأقيمت فى الوقت المناسب. ووسائل النقل العام عملت بصورة جيدة. ولا تكاد تكون هناك جرائم وقعت خلال الحدث. وآذر أهل البلاد السود والبيض فريقهم. وأعجب الزوار من مختلف أنحاء العالم بجمال جنوب أفريقيا وحسن ضيافتها. ولا شك أن البلاد تعانى من مشكلات خطيرة، كارتفاع معدل البطالة، والجريمة، ومرض نقص المناعة البشرية، والتوترات العرقية، والفجوة المروعة بين الأغنياء والفقراء. لكننى، كشخص يعود إلى جنوب أفريقيا للمرة الأولى منذ عام 1989، أذهلنى مدى التحسن الذى طرأ على البلاد منذ أيام الأبارتايد. فمدينة سويتو التى بنيت على أطراف جوهانسبرج كمكان بدائى لسكنى السود، يخدمها الآن طريق سريع ملائم. وطرقها ممهدة ومضاءة ليلا. كما تضم مراكز تسوق كبيرة ومنافذ لبيع الأطعمة السريعة. ولم يكن أى من ذلك قائما قبل 20 عاما. ومنذ نهاية حقبة الفصل العنصرى (الأبارتايد) ظهرت مدن بكاملها. وتضم ديبسلوت، الواقعة بين جوهانسبرج وبريتوريا، أكثر من مليون شخص الآن. وهى تجسد على نحو ما مشكلات «جنوب أفريقيا الجديدة». فالكثيرون يعيشون فى أكواخ من الصفيح، بلا ماء ولا كهرباء. ومعدلات البطالة والجريمة مرتفعة وهناك توترات بين السكان المحليين ومئات الآلاف من المهاجرين الذين قدموا إلى المنطقة، ليس من بلدان أفريقية مجاورة فحسب، بل من بلدان بعيدة مثل باكستان. غير أنه حتى ديبسلوت تمثل تقدما على نحو ما. ففى ظل الأبارتايد، كان السود محتجزين بالمعنى الحرفى للكلمة فى مكانهم. وما إن رفعت القيود العنصرية على حرية الحركة، حتى صار الفقراء من أنحاء البلاد ينتقلون بحرية إلى منطقة جوهانسبرج سعيا وراء العمل. ويوجد فقر حقيقى فى ديبسلوت ولكن هناك أيضا اختناقات مرورية فى ساعة الذروة، وفى كل ركن من أركان البلدة توجد مشروعات صغيرة: مصففو الشعر، ومحال البقالة، والحانات، ومقاهى الإنترنت. وتثير الاحتياجات الاجتماعية فى أماكن مثل ديبسلوت تساؤلا واضحا. هل كانت حكومة جنوب أفريقيا محقة فى تبذير مئات الملايين من الدولارات على بناء ملاعب كرة قدم جديدة، بدلا من إنفاق الأموال على الإسكان والمدارس والرعاية الصحية؟ تتوقف الإجابة على ما يحدث الآن. ومن المحتمل إلى حد كبير أن تكون السعادة التى نجمت عن كأس العالم عابرة مثل «عامل التفاؤل» الذى ظهر فى اليونان عقب أولمبياد 2004. ولكن إذا استخدمت حكومة جنوب أفريقيا بعض الطاقة التى أنفقتها على إقامة بطولة كرة قدم ناجحة وطبقتها على مشكلات العالم الواقعى فربما تصبح كأس العالم نقطة تحوُّل. فقد نجحت جنوب أفريقيا فى أن تقيم على وجه السرعة ملاعب جديدة مبهجة. غير أن الحكومة كانت تتحرك ببطء شديد بينما كان مرض نقص المناعة البشرية (الإيدز) يخرب البلاد وهو ما خفض معدل العمر الافتراضى للمواطن من 60 إلى 49 عاما. وبعد نحو عشرين عاما تقريبا من انتهاء الأبارتايد، مازالت مدارس جنوب أفريقيا تقدم نتائج سيئة فى الرياضيات والعلوم ومن ثم فالبلد يعانى فى آن واحد من ارتفاع معدل البطالة إلى 40 فى المائة (تبعا لكيفية القياس) كما يعانى من نقص المهارات. ومع ذلك، مازالت الحكومة قلقة للغاية من مواجهة النقابات القوية التى تحمى المعلمين المتغيبين. وبالنسبة لكأس العالم، حشدت الحكومة جهودها، وهو ما يرجع جزئيا إلى تعرضها لضغط خارجى هائل من التهديد بنقل البطولة إذا لم تف بالمواعيد المحددة والتعهدات التى التزمت بها. ومع ذلك، لم يواجه حزب المؤتمر الأفريقى الوطنى فى الداخل ضغطا مماثلا للضغط الخارجى. ويبدو أنه واثق على نحو يمكن تبريره من أنه سيواصل الفوز بالانتخابات طويلا فى المستقبل. وليس صحيحا دائما أن حكم الحزب الواحد يؤدى إلى كارثة. ففى سنغافورة والصين، نجح النظام الراسخ للحزب الواحد الحاكم فى إدارة فترات طويلة من النمو الاقتصادى السريع. والمشكلة أن حزب المؤتمر الوطنى الأفريقى يبدو على يسار الحزب الشيوعى الصينى. فقد أرهق جنوب أفريقيا بلوائح وقوانين عمالية تلائم السويد على نحو أكثر مما تلائم دولة نامية. ففى حين مالت الصين إلى التراجع لجذب مستثمرين أجانب، تبنت جنوب أفريقيا قوانين استثمارية تفرض تكاليف باهظة على المستثمرين باسم «تمكين اقتصاد السود». ويبدو أن ذلك أدى إلى إثراء مجموعة صغيرة من السود المتنفذين ذوى العلاقات الجيدة، فى حين عرقل خلق فرص العمل للفقراء. ويشكو العديد من مواطنى جنوب أفريقيا، السود والبيض، من أن حكومتهم تتسم بالرضا الزائد عن النفس، والفساد، وعدم الكفاءة. وقد كشف كأس العالم عن جانب أكثر دينامية لحكومة جنوب أفريقيا. فأثناء عودتى من احدى المباريات سيرا على الأقدام، فى وقت متأخر من الليل، عبر منطقة فقيرة من وسط جوهانسبرج. أثنيت على كفاءة الشرطة التى جعلت المنطقة آمنة، فى مجاملة لمرافقى الجنوب أفريقى. فقال ضاحكا «هذا فقط من أجلكم، وسيعود الأمر إلى ما كان عليه بمجرد أن ينتهى كأس العالم». وسيكون الأمر رائعا إذا استطاعت حكومة جنوب أفريقيا أن تثبت الآن قدرتها على التصدى للجريمة، والمواصلات، وجميع مشكلات البلاد الأخرى، ليس لمدة شهر ومن أجل الأجانب فحسب، ولكن لفترة طويلة فى المستقبل ومن أجل جميع المواطنين.