حتى إبان الدقائق الحرجة من صباح 5 أبريل الجارى التى حبس فيها العالم أنفاسه وقت عبور الصاروخ بعيد المدى تايبودونج 2 الكورى الشمالى أجواء جزيرة هونشو اليابانية فى طريقه نحو السقوط فى المحيط الهادى شرق أرخبيل اليابان بمسافة 1300كم، فإن الأمر لم يكن يستدعى ذلك الاستنفار وبيانات التنديد الصاخبة التى ما فتأت تصور من قبل حليفى الولاياتالمتحدة الرئيسيين فى شرق آسيا اليابان وكوريا الجنوبية منذ أن أعلنت كوريا الشمالية فى الأسبوع الأخير من فبراير الماضى عزمها إطلاق صاروخ يحمل قمرا اصطناعيا مخصصا للاتصالات وإن كانت لم تعط موعدا محددا لإطلاقه. كلتا الدولتين تدرك عن قناعة كما هو حال حليفهم الأكبر أن غرض الإطلاق الحقيقى هو إجراء اختبار لصاروخ جديد بعيد المدى بإمكانية حمل رءوس حربية نووية وأن كوريا الشمالية بادعائها إرسال قمر اصطناعى للفضاء إنما تستغل ثغرة فى قرار مجلس الأمن 1718 الصادر فى أكتوبر 2006 الذى يحظر عليها القيام بأى تجارب ترتبط بتطوير تقنيات الصواريخ ذاتية الدفع وذلك من خلال ممارسة حقها فى حيازة برنامج فضائى كدولة موقعة على معاهدة الأممالمتحدة للفضاء التى تكفل لها إرسال أقمار اصطناعية إلى مدارات فضائية. كما أن الدولتين تدركان عن واقع حتى وهما يعلنان حالة التأهب القصوى فى صفوف قواتها العسكرية ويدفعان بمدمرات أنظمة الدفاع الصاروخى «إيجيس» إلى بحر اليابان قبالة الساحل الشرقى لكوريا الشمالية أن هذا الإطلاق الصاروخى للأخيرة لن يغير من واقع انكشافيتهما العميقة أمام أى أفعال أو ردود أفعال عسكرية لكوريا الشمالية، فكلتاهما تقع فى مرمى ترسانة الصواريخ الباليستية القصيرة والمتوسطة المدى لكوريا الشمالية التى تصل أعدادها فى آخر تقرير لوزارة الدفاع الكورية الجنوبية صدر فى أواخر فبراير الماضى متزامنا مع اندلاع الأزمة 800 صاروخ من بينها 600 صاروخ على منصات إطلاق متحركة وهى أعداد تدرك القيادات العسكرية فى البلدين أن أنظمة الدفاع الصاروخى المتطورة سواء المتمركزة برا كصواريخ الباتريوت الأمريكية أو المتمركزة بحرا على مدمرات نظام «إيجيس» لن تملك فاعلية موثوقة فى مواجهة معدلات إطلاق صاروخى كثيف ومتوقع من قبل الكوريين الشماليين تجاه الأهداف الحيوية فى الدولتين، ثم إن كوريا الجنوبية تدرك أن عاصمتها سيول والمناطق الاقتصادية المهمة المحيطة بها التى لا تبعد بأكثر من 40 ميلا عن خط الحدود الفاصل مع الشمال هى فى مرمى نيران واحدة من أضخم حشود المدفعيات التى عرفها التاريخ التى يفوق تعدادها ال13 ألف قطعة من بينها ما يقرب من ألف ومائتى قطعة مدفعية ومنصة إطلاق صاروخية متعددة الفوهات قادرة على إشعال العاصمة الجنوبية وكل من حولها، كما تدرك أيضا أنها تواجه جيشا يبلغ تعداده أكثر من مليون ومائة ألف جندى هو الثالث من حيث الترتيب العددى فى القوة البشرية على مستوى العالم يحتوى فى إطاره على أكبر حجم قوات خاصة فى العالم إذ يبلغ عددها حسب التقرير المشار إليه آنفا حوالى 180 ألف جندى تدرك عن يقين كوريا الجنوبية مدى خطورة تغلغلهم إلى عمق الدولة إبان شن عمليات عدائية متبادلة وهى فى مجملها إدراكات واقع دفع الرئيس لى ميونج باك للقول بأن «المصلحة الأساسية لواشنطن هى التخلص من أسلحة الدمار الشامل بهدف إصلاح العالم لكن الأمر بالنسبة لنا فإن الحرب ستكون مسألة حياة أو موت ولذا فإننا نعارض أى رد عسكرى على عملية الإطلاق». ما يهمنا إذا هو أمر اللاعبين الأساسيين فى هذه الأزمة. كوريا الشمالية والولاياتالمتحدة واللتان مارستا الأزمة بمستوى نضج سياسى تدركان من خلاله طبيعة التوازن القائم فى القوى بينهما ومضمون الرسالة ووجهتها بدقة، حتى وإن بدت الأقوال والأفعال الظاهرية تشى بغير ذلك. فالكوريون الشماليون الذين أعلنوا نجاح عملية الاطلاق بوضع قمر اصطناعى فى مداره الفضائى وأنه على حد قولهم يبث الآن «أناشيد النصر الخالدة للجنرالين كيم إيل سونج وكيم جونج إيل ومعلومات محددة عن الأرض وظروف الطقس» وأن «صاروخ الإطلاق والقمر الاصطناعى هما ثمرة نضالنا لدفع التكنولوجيا الفضائية للأمة إلى مستوى أعلى» يدركون أن الأمر من منظور القمر الاصطناعى كان إخفاقا تاما حيث تجمع كل من بيانات قيادة الدفاعى الفضائى لأمريكا الشمالية وهيئة الأركان الروسية أنه «لم يرصد وضع قمر كورى شمالى فى المدار ومعلوماتنا تفيد بأن كل حطام الصاروخ سقط فى بحر اليابان والمحيط الهادى» على حد قول الأخيرة، وإن ما حدث هو «تجربة لصاروخ بعيد المدى قطع مسافة 3200 كم حتى سقوطه» على حد قول الأولى. الرسالة الكورية الشمالية إذا فى مضمونها ترسل بإشاراتها إلى إدارة أمريكية جديدة بأننا نملك بنية أساسية قادرة على خوض اللعبة النووية سواء بقدرات صاروخية بعيدة المدى تصل إلى أوكيناوا وهاواى ومناطق فى ولاية ألاسكا وربما تصل فى المستقبل إلى مناطق ومدن شاسعة فى النصف الغربى من القارة الأمريكية، أو بقدرات علمية وتصنيعية قد تكون عند نقطة ما قادمة قادرة على وضع رأس نووى صغير يلائم حمولة هذا النوع من الصواريخ طالما امتلكنا القدرة الحالية على وضع قمر اصطناعى صغير على رأس هذا الصاروخ الذى وإن كان فشل جزئيا من الناحية التقنية إلا أنه أرسل الإشارة المطلوبة لكم!، ولذا فنحن الكوريين الشماليين نرغب لمقايضة ذلك بانتزاع تنازلات منكم لحضور جولات أكثر تعقيدا فى المستقبل فى إطار المحادثات السداسية بشأن انهاء برنامجنا النووى والمعلقة منذ ديسمبر الماضى بسبب تعنتكم أنتم وحلفائكم الكوريين الجنوبيين واليابانيين فى شأن تفسيركم لبعض بنود اتفاقية فبراير 2007 وبشأن نكوصكم عن توفير المعونات الاقتصادية والإنسانية لنا واشتراطكم الدائم بربطها باستحقاقات مبالغ فيها فى طرفكم. الأمريكيون من جانبهم اعتمدوا استجابة متوازنة تجمع ما بين الخطاب السياسى المعبر عن قلق بالغ من خطط كوريا الشمالية لاطلاق قمر اصطناعى واعتبروا أن التقنية المستخدمة فى ذلك لا تختلف عن التقنية المستخدمة فى اطلاق الصواريخ بعيدة المدى، وما بين ردود فعل ميدانية منضبطة اكتفت بنشر عدد محدود من انظمة دفاعات صاروخية بحرية قريبا من السواحل اليابانية وبتأهب أنظمة مماثلة متمركزة أيضا حول القواعد الأمريكية فى المنطقة ومن ثم فلم يشهد الأمر كما كان فى حالات سابقة إعادة نشر سريع لوحدات من القاذفات الاستراتيجية أو المجموعات من حاملات الطائرات مصحوبا بخطابات سياسية حادة ووعيد بردود أفعال قاصمة، بل إنه فى الوقت الذى كان فيه الأدميرال تيموثى كيتنج قائد القيادة الأمريكية فى المحيط الهادى يجزم بأن لدى الولاياتالمتحدة قدرة اسقاط الصاوخ الكورى الشمالى المزمع إطلاقه، جاء رد وزير الدفاع الأمريكى روبرت جيتس متحفظا محددا حدود الدور الأمريكى بقوله: «ليست لدينا خطط فى هذا الشأن إلا إذا كان الصاروخ متجها نحو الأراضى الأمريكية» فى إشارة واضحة لحلفاء الولاياتالمتحدة هنا بأنها ستحمى أرضها وليس أراضيهم. يبدو أن الثقة التى عليها الأمريكيون إبان هذه الأزمة مؤسسة على تقديرات واعية بحدود القدرة الكورية الشمالية الحالية فى مجال الصواريخ البعيدة المدى سواء بحكم الفشل المتكرر فى عمليات الإطلاق لمثل هذا النوع من الصواريخ على مدى العقد الماضى والذى تحقق فى تجارب العام 1998 وكذلك فى العام 2006 خلال سلسلة الإطلاقات المتتالية الشهيرة فى يوليو من ذلك العام، أو من خلال المستوى المتواضع عمليا وهندسيا التى هى عليه فى مجال حيازة رأس نووى صغير يمكن ملاءمته. وطبيعة التجهيز المطلوب على هذا النوع من الصواريخ. هذا فضلا عن انعدام قدرة كوريا الشمالية على توجيه ضربة استباقية صاروخية ضد أهداف وأراض أمريكية باعتبار اقتصادها على نوع الصواريخ ذات الوقود السائل الذى يتطلب الأمر ضرورة نصبه أولا ثم القيام بعملية التزود بالوقود وهى عملية تحتاج لفترة زمنية طويلة يسهل معها رصدها فى الجو والفضاء والقيام بتدميرها فى مواقعها قبل اكتمال جاهزيتها، ولعل ما شاهده العالم مباشرة على شاشات التليفاز من عمليات نصب للصاروخ وتزويده بالوقود لعدة أيام سابقة للاطلاق ما يؤكد ذلك. لكن مضمون الرسالة الأمريكية ووجهتها كان فى مقعد آخر غير كوريا الشمالية، الرسالة إذا كانت إلى الحلفاء فى شرق آسيا إلى الصين معا، فعليكم أنتم تولى مسئولية أموركم، فمشكلة كوريا الشمالية إقليمية فى الأساس وليست كونية وهى لن تكون خطرة إلا على جيرانها، فعليكم تحمل العبء وعلينا نحن الأمريكيين أن نخفض التزاماتنا ووجودنا العسكرى هناك، فبعد مرور 56 عاما من انتهاء الحرب الكورية وبعد انقضاء 18 عاما على انتهاء الحرب الباردة، ووسط كل تمددنا المفرط لقواتنا العسكرية فى مناطق عديدة من العالم، وفى خضم أزمتنا المالية الطاحنة لم نعد نتحمل ولا نحتمل مرة أخرى تلك المبالغات الساذجة فى تقدير دور القوة الأمريكية فى حل النزاعات الإقليمية على النحو الذى ورثناه من إداراتنا السابقة. ربما تلك هى رسائل أزمة قمر اصطناعى أخفق فى الوصول إلى مداره هذا من المؤكد، لكنهم الآن وعلى شاشة التليفاز أمامى مباشرة يحتفلون فى بيونج يانج فى صخب بالغ بنجاح إطلاقه!.. هى إذا السياسة ولا شىء غيرها.