ارتفاعات كبيرة في أسعار الذهب العالمية.. والأوقية تسجل 2352 دولارا    سعر كرتونة البيض اليوم الأربعاء 5-6-2024 في بورصة الدواجن    الانتهاء من مشروع توسعة محطة معالجة مياه الحوامدية في الجيزة    بنك إنجلترا يطرح الإسترليني الجديد.. صورة الملك تشارلز بدلا من إليزابيث    آخر أخبار غزة.. الأزمة الإنسانية تتفاقم وإسرائيل تبدأ هجوما بريا جديدا على البريج    خبير دولي: جهود مصر لدعم القضية الفلسطينية لم تنقطع لحظة واحدة    موجة حارة تضرب السعودية.. ارتفاع الحرارة في مكة والمدينة ل47 درجة    الانتهاء من تجهيز 40 لجنة لامتحانات الثانوية العامة في الفيوم    السعودية ومصر تعلنان موعد غرة ذي الحجة وعيد الأضحى 2024 غدا    رسميا.. إطلاق المرحلة الثانية للكشف المبكر عن الأورام السرطانية    أسعار الأسمنت اليوم الاربعاء 5-6-2024 في محافظة قنا    "لوموند": الهند تدخل حقبة من عدم الاستقرار السياسي بعد الانتخابات التشريعية    صحيفة تسلط الضوء على الانقسام بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة حول الأصول الروسية    مجلس النواب الأمريكى يوافق على تشريع جديد يعاقب المحكمة الجنائية الدولية    موعد مباراة مالي وغانا في تصفيات كأس العالم 2026 والقنوات الناقلة    مواعيد مباريات اليوم الأربعاء 5-6-2024 بالدوري المصري والبطولات العالمية    حسين علي: الأهلي يسر وفقًا لنظام إداري قوي.. والزمالك يعاني ماليًا من سنوات    تعرف على أسعار التصالح في مخالفات البناء وفقا للقانون    أسعار الفاكهة اليوم الاربعاء 5-6-2024 في قنا    معلومات الوزراء: التقارير المزيفة تنتشر أسرع 10 مرات من نظيرتها الحقيقية    شاومينج يزعم تداول أسئلة امتحانات الدبلومات الفنية 2024    البحوث الفلكية تكشف موعد هلال شهر ذي الحجة    اليوم.. الحكم على أحد المتهمين بقتل عميل بنك مصر لسرقته بالعمرانية    مصطفى الفقي: وزير التموين من أكفأ الوزراء في حكومة مدبولي    قائمة أسعار الأضاحي مع اقتراب عيد الأضحى 2024    انطلاق القافلة الطبية بقرية سيدي شبيب فوكة بالضبعة شرق مطروح    العرضي المسرحي الأرتيست كامل العدد لليلة الثالثة على التوالي    انطلاق فعاليات الاجتماع الفني لتطوير البنية التحتية للطاقة النووية في مصر بفيينا    5 نصائح من «الصحة» ل«الحجاج».. اتبعوها للوقاية من العدوى    طريقة عمل شاورما اللحمة، أكلة سريعة ومغذية    تعرف على عقوبة أفشة في الأهلي.. وموقفه من العودة للتدريبات    منها الحيض.. مركز الأزهر للفتوى يوضح جميع أحكام المرأة فى الحج    ما هو السن الشرعية للأضحية وهل يجوز التضحية بالتي لم تبلغ السن؟.. الإفتاء توضح    «معدومي الضمير وضموا لاعبين مبيعرفوش يباصوا».. ميدو يهاجم مسؤولين سابقين في الإسماعيلي    محافظ الدقهلية: توفير إيواء مؤقت ومساعدات للأسر المتضررة بانهيار عقار ميت غمر    "قومي المرأة" بالمنيا يناقش طرق التعاون المشترك مع الأجهزة التنفيذية    جميلة عوض تتصدر الترند بعد عقد قرانها على أحمد حافظ (صور)    تعادل إيطاليا مع تركيا في مباراة ودية استعدادًا ليورو 2024    النائبة مها عبد الناصر تطالب بمحاسبة وزراء الحكومة كل 3 أشهر    برلمانية: نحتاج من الحكومة برامج مٌعلنة ومٌحددة للنهوض بالصحة والتعليم    فجور عصابة العسكر ..الشارع المصري يغلى بسبب العيش والحكومة تستعد لرفع أسعار الكهرباء والبنزين    المصري البورسعيدي يكشف موعد الإعلان عن الملعب الجديد في بورسعيد    عربية بورش وظهور لافت ل طليقة شاكوش، مشاهد جديدة من احتفال حمو بيكا بعيد ميلاد زوجته    «الأهلي» يرد على عبدالله السعيد: لم نحزن على رحيلك    الإفتاء تحذر المصريين من ظاهرة خطيرة قبل عيد الأضحى: لا تفعلوا ذلك    إبراهيم عيسى: المواطن يشعر بأن الحكومة الجديدة ستكون توأم للمستقيلة    وفد «الجهاد الإسلامي» الفلسطينية يصل القاهرة لاستعراض الأوضاع الحالية في غزة    البابا تواضروس: بعض الأقباط طلبوا الهجرة خارج البلاد أيام حكم مرسي    «شديد السخونة».. الأرصاد تحذر من حالة الطقس اليوم وتكشف موعد انخفاض درجات الحرارة    برلمان سلوفينيا يوافق على الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة    البابا تواضروس ل"الشاهد": بعض الأقباط طلبوا الهجرة أيام حكم مرسي    علماء الأزهر: صكوك الأضاحي لها قيمة كبيرة في تعظيم ثوابها والحفاظ على البيئة    البابا تواضروس يكشف كواليس لقائه الأول مع الرئيس السيسي    البابا تواضروس: التجليس له طقس كبير ومرسي أرسل رئيس وزراءه ذرًا للرماد    حظك اليوم| الاربعاء 5 يونيو لمواليد برج الميزان    حظك اليوم| الاربعاء 5 يونيو لمواليد برج الحمل    البابا تواضروس يكشف تفاصيل الاعتداء على الكاتدرائية في عهد الإخوان    مع اقتراب عيد الأضحى.. 3 طرق فعالة لإزالة بقع الدم من الملابس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصر هبة النيل: خواطر وشجون
نشر في الشروق الجديد يوم 16 - 06 - 2010

«هيرودوت»، أبوالتاريخ، المؤرخ الإغريقى الأشهر من القرن الخامس قبل الميلاد الذى زار مصر القديمة، وكتب عنها ضمن «تاريخه» المعروف، والذى ظل وصفه لمصر القديمة فى حضارتها وعباداتها وعادات أهلها المرجع الأكبر لذلك العصر حتى نشأة «علم المصريات» الحديث Egyptology فى القرن التاسع عشر هيرودوت هذا لم يحالفه الصواب فى كل شىء، فمن الروايات الواردة فى تاريخه مثلا أن فيضان النيل إنما ينتج عن ذوبان الثلوج فى أقاصى الجنوب، مما يجعله يبدى تعجبه من وجود الثلوج فى أفريقيا التى يعتبرها أحرّ مناطق العالم، ثم يمضى محاولا تفسير تلك الظاهرة الخاطئة أصلا بالكلام على الرياح الصحراوية التى تحجب حرارة الشمس عن تلك المناطق فتتكون الثلوج التى ما تلبث أن تذوب فينتج عنها الفيضان.
إن كان هيرودوت أخطأ فى شرح فيضان النيل الذى عاينه فى مصر، فإنه من المؤكد قد أصاب فى عبارته الشهيرة «مصر هبة النيل»، تلك العبارة التى لقنّا إياها صغارا فى المدارس، ولعل أبناء الجيل الحالى مازالوا يطالعونها فى كتبهم المدرسية حتى اليوم. والمعنى الذى قصده هيرودوت قبل ألفى وخمسمائة سنة، وهو أن حضارة مصر المستقرة الزاهرة القائمة على الزراعة ما كانت لتكون لولا ماء النيل وطميه المتجدد مع كل عام جديد، ضامنا إلى الأبد خصوبة التربة وما تطرح من ثمار ذلك المعنى الصادق فى زمانه، لا ينقص صدقه مقدار ذرة اليوم. وهو سبب الانزعاج الشديد الذى استبد بنا نحن المصريين جراء نقض دول المنبع لاتفاقيات المياه القائمة بينهم وبين مصر. انزعاجنا اليوم هو انزعاج تاريخى بقدر ما هو انزعاج وجودى. وكأن المصرى الخائف اليوم على ماء النيل لا يخاف على الحاضر والمستقبل وحده، وإنما يخاف بأثر رجعى على ماضينا الذى هو أيضا «هبة النيل».
لا أعتقد أنى فهمت معنى قول هيرودوت حق الفهم إلا بعد زمن طويل من تلقينى العبارة فى الصف المدرسى. إنما صدمنى معنى تلك العبارة بكامل قوته، حينما رأيت مصر لأول مرة من نافذة الطائرة فى الجو. شريط أسمر عملاق الطول، يحيط به من الجانبين شريطان أخضران، ومن ورائهما يترامى انفساح أصفر بلا حدود. أدركت وقتها لأول مرة أنه لولا الشريط الأسمر، لما وُجد الشريطان الأخضران وما عليهما من عمران وحياة، ولا ازدهى الخواء الأصفر اللامتناهى بانتصاره على إمكانية الحياة، ولما وُجد التاريخ والحضارة العريقة التى ننتسب إليها نحن المصريين.
كانت نزهتى الكبرى، صيفا وشتاء، أيام الطلبنة فى المدرسة السعيدية الثانوية ثم فى جامعة القاهرة أن أسير المساء بحذاء كورنيش النيل من عند كوبرى الجيزة (عباس سابقا) حتى كوبرى الجلاء، فأعبره مجتازا الجزيرة، فكوبرى قصر النيل، حتى أجد نفسى فى ميدان التحرير ووسط البلد. كنت أفضل صحبة النهر العظيم ساعة أو يزيد على اكتظاظ الباص، وإن أخذنى لمقصدى فى دقائق. غبت عن القاهرة سنوات طويلة فى إنجلترا، ثم عدت ذات مرة مشتاقا أن أتقصى خطوات رحلتى الأثيرة فى الزمن الغابر. ويا لهول ما اختبرت! لم يعد النيل موجودا. اختفى النهر العظيم بالنسبة للسائر على الكورنيش، وعلى ضفته قامت النوادى الخاصة للطبقة الخاصة، ورست العوامات الثابتة والمتحركة تقدم أطايب الطعام والشراب، وجولات الرقص والطرب، للقادرين على الدفع. أما من لم تحتكم جيوبهم إلا على قرطاس الترمس أو كوز الذرة المشوية، فالنيل لم يعد لهم. صفحته الرقراقة الجميلة، العاكسة لما حولها من حياة وأضواء، المرسلة نسيمها على خلق الله بلا تفرقة ولا انحياز، لم تعد لهم. النيل، مانح الحياة للجميع، صار طبقيا. أُممّ! أم لعل الكلمة الصحيحة «خُصخص»؟ يومها بكى قلبى على ذكريات الجمال التى سرقت منى ومن جيلى، وعلى نصيب الأجيال الحالية التى سُلب منها النيل، ووقعت ضحية لانعدام التخطيط العمرانى، ولتسيّد قيم القبح والأنانية العشوائية، التى لا ينجم عنها إلا غلظة الروح والسلوك. واليوم أرى انعدام التخطيط، والنظرة المستقبلية، يواجهنا بما هو أخطر من احتجاب الوجه الرقراق لصفحة النيل وراء قبح البناء الفج. أراه يواجهنا باحتمالات غياب ماء الحياة ذاته، حتى فيما وراء الأبنية الغليظة.
وأتذكر فيما أتذكر واحدا من كتبنا المدرسية فى ذلك الوقت، نحن الجيل الذى نشأ فى مدارس ثورة 1952 الوليدة. أتذكر كتيب جمال عبدالناصر «فلسفة الثورة» الذى لم أعد إليه منذ ذلك الوقت. وأتذكر دوائره الثلاث التى رأى أنها المجالات الحيوية الثلاثة لمصر. الدائرة العربية، والدائرة الإسلامية، والدائرة الأفريقية. أخطأ عبدالناصر كثيرا. ولكنه كان مصيبا فى تحديد هذه الدوائر، وإن غاب عنه أهمية الدائرة الأوروبية لحوض المتوسط، أو لعلنا نجد له العذر، فتلك وقتها كانت الدائرة الاستعمارية التى تحاول المنطقة التحرر منها. إلا أن المهم فى سياقنا الحالى هو «الدائرة الأفريقية»، وبالأخص الدائرة «النيلية».
كان عبدالناصر يرى فى أفريقيا مجالا طبيعيا للحركة المصرية، ولم يكن فى ذلك مجددا غير مسبوق، فهذا كان دائما أحد توجهات فراعين مصر القدامى، وهكذا كان توجه أسرة محمد على فى العصر الحديث أيضا، وخاصة فى زمن الخديو إسماعيل.
على أن ذلك كان فى عهود التوسع والفتح ومد السيطرة. أما فى النصف الثانى من القرن العشرين، عصر التحرر والاستقلال، فقد حلت المصالح السياسية والاقتصادية وتبادل المنافع والتحالفات محل الفتوح والتوسعات. لكنى أرانا فى العقود الأخيرة التهينا بأزماتنا، وحروبنا، وانتكاساتنا، وافتقارنا، ومحاولتنا البقاء أحياء بقدر الإمكان أرانا التهينا بذلك كله حتى انكمشنا على أنفسنا، وتقلص تأثيرنا فى دوائر عبدالناصر الثلاث جميعا، حتى وجدنا أنفسنا منزوين قرب المحيط الخارجى لها، أو ربما خارج الدائرة تماما فى حالة أفريقيا، كما تؤكد الأزمة الحالية مع دول المنبع النيلى.
من كان يظن النيل مصريا وحسب، فإنه اليوم يعلم أن النيل أوغندى، وإثيوبى، وزائيرى، وكينى، وتانزانى، ورواندى، وبوروندى، وسودانى، ثم مصرى. إن مصر دولة المصب وحسب. المحطة الأخيرة للمسافر الجبار فى رحلته السنوية. مصر «هبة» النيل، وليست «مالكة» النيل. وللنيل فيما نكتشف الساعةَ بنات أخريات غير مصر، يتذكرن اليوم والدهن العظيم، ويطالبن بحقهن فى ثروته الهائلة من ماء الحياة. حان للأخت الكبرى أن تراضى الأخوات الصغيرات اللاتى نسيتهن فى انكبابها على همومها الخاصة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.