تكتسب بعض الأطباق شعبية كبيرة باعتبارها من أكثر الأصناف الثابتة على الموائد المصرية، لكنها في الأساس ليست مجرد وجبات، بل هي امتداد لعادات ترسخت عبر الزمن وحملت في تفاصيلها تاريخا طويلا من التحولات؛ فهي أكلات تتكرر على الموائد جيلا بعد جيل، حتى بدت وكأنها جزءً ثابتا من الهوية الغذائية للمصريين، لكن وراء هذا الثبات الظاهري تكمن حكايات تشكل المائدة المصرية عبر العصور من أطباق ذات جذور فرعونية إلى وصفات تطورت في العصور الإسلامية، ثم أعيدت صياغتها بطريقة تناسب الذوق المصري. في السطور التالية نحاول تتبع مسار بعض الأطباق الرئيسية على الموائد المصرية؛ للكشف عن كيفية انتقالها من زمن إلى آخر، وكيف أعاد المصريون تشكيلها حتى أصبحت جزءً أصيلا من مائدتهم اليوم؟. الملوخية.. من المعابد إلى الموائد يروي الكاتب والباحث عبدالله عثمان، أنه في قرية من قرى محافظة الشرقية، وفي عادة تمتد من القاهرة إلى عدد من المحافظات القريبة، يعود الناس من صلاة الجمعة ليجدون طعام الغداء في انتظارهم، وتتشابه الموائد في هذا التوقيت من الأسبوع؛ فالمصريون اعتادوا تخصيص أطعمة بعينها لأوقات محددة، كنوع من مقاومة تغير الزمن وتسارعه، إذ يجلسون إلى المائدة حيث الأرز بالشعرية، والفراخ البلدي، والشوربة، والملوخية، ولا يُعرف على وجه الدقة متى بدأت هذه العادة، لكن المؤكد أن أقدم هذه الأكلات حضورا في حياة المصريين هي الملوخية، التي نبتت على ضفاف النيل، وصنع منها المصريون الحساء، وظهرت في بعض الجداريات على جدران المعابد المصرية القديمة. وأضاف أنه في زمن الحاكم بأمر الله، انتشرت شائعة عن الملوخية أو الملوكية -كما كانت تسمى آنذاك- تزعم أنها تزيد الشهوة عند النساء، ما دفع الحاكم إلى منعها وفرض عقوبات على من يبيعها أو يطهوها، ورغم ذلك، ظل حضورها راسخا في المطبخ المصري. وأشار إلى كونها سهلة التناول والهضم، لذا اعتادت الأمهات المصريات إطعام الملوخية للأطفال بعد الفطام، وتحضر في القاهرة والدلتا كحساء تطحن أوراقه جيدا، ثم تضاف إلى المرق وتقلب على النار حتى تصل إلى قوام متوسط اللزوجة، قبل أن تُضاف إليها "الطشة" أو التقلية المصنوعة من الثوم الساخن، أما في الصعيد فتحضر بإضافة الطماطم والبهارات، وتعرف باسم "الشلولو". سر "الشهقة" ترتبط الملوخية في الذاكرة الشعبية بما يعرف ب"الشهقة"، ويوضح عثمان أن إحدى الروايات الشعبية أن امرأة في العصر المملوكي شهقت عند سماع خبر وفاة والدها، وكانت في أثناء ذلك تقلب الملوخية، ولاحظت أن طعمها في ذلك اليوم كان ألذ من المعتاد، فكررت الشهقة مرة بعد أخرى، حتى تحولت إلى عادة في الطهي، وهي حكاية شعبية قد ترتبط بما يعرف بين المصريين ب"نفس الطبخ". جذور مصرية صنعت أطباقا عالمية تشير الباحثة سميرة عبدالقادر، إلأى أن عادة "تزغيط" البط والأوز تعود إلى مصر القديمة منذ أكثر من 2500 عام قبل الميلاد، حيث كان المصريون القدماء روادا في تربية الطيور والحيوانات للغذاء، وقد لاحظوا أن إجبار الأوز على الأكل يؤدي إلى تسمينه وتركيز الدهون حول الكبد، ما جعل كبد الأوز من الأطعمة المفضلة في العالم القديم، وانتقلت هذه المعرفة من مصر إلى الإغريق والرومان، ثم إلى أوروبا، لتشتهر في فرنسا منذ القرن الثامن عشر باسم "Foie gras". وأشار المؤرخ هيرودوت، في القرن الخامس قبل الميلاد، إلى اهتمام الكهنة بتربية الأوز حول معابد آمون، بينما تؤكد الرسومات المصرية الأقدم ممارسة "التزغيط" منذ آلاف السنين قبل ذلك. أما الرقاق أو "السمبوسك" فهو من أشهر أكلات العصر الفاطمي، حيث كان يحضر من عجينة "البتاو"، وهو خبز مصري قديم معروف منذ العصور الفرعونية بأشكال متعددة، رقيق وسميك وطري وجاف، ومع انتقال هذا الخبز إلى العديد من البلدان، شاع اسمه حول العالم، بينما ظل أصل الوصفة مصريا. وتذكر كتب الطهي المصرية، مثل "وصلة الحبيب في وصف الطيبات" في القرن الحادي عشر و"كنز الفوائد في تنويع الموائد" في القرن الرابع عشر، وصفات متعددة للرقاق أو السمبوسك، منها الحادق باللحم، والحلو بالمكسرات والتمر، إضافة إلى المخبوز والمقلي، وكان السمبوسك الحلوة تعرف باسم الأسيوطية نسبة إلى أسيوط، وورد هذا الاسم حتى في كتب الطبخ الشامية، ومع مرور الزمن تغيرت أشكال العجين وطرق التحضير، لكن الرقاق ظل الأصل الذي انطلقت منه هذه الأكلة. المحشي.. طبق متوسطي بملامح مصرية توضح الدكتورة هالة بركات، الباحثة في مجال الأغذية والنباتات المصرية القديمة، أن الأرز لم يكن معروفا في مصر القديمة، وأن دخوله ارتبط بالعرب بعد الفتح الإسلامي، أي منذ نحو 1500 عام، أما مكونات المحشي الأساسية، مثل الفلفل والكوسة والفلفل الحار والطماطم، فجميعها جاءت من الأمريكيتين بعد الاكتشافات الجغرافية، أي منذ نحو 500 عام فقط، ما يجعل شكل المحشي الحالي حديثا نسبيا في تاريخ المطبخ المصري. وأضافت أن الباذنجان قد دخل مصر في وقت أقدم قليلا، ويرجّح أنه جاء مع العرب، لكن المحشي بوصفه طبقا متكاملا تشكل في فترة متأخرة، خاصة بعد الحكم العثماني، الذي تأثر فيه المطبخ المصري بالمطبخ العثماني بشكل واضح. وعند مقارنة أطباق المحشي في مصر بما يؤكل في تركيا واليونان وقبرص ولبنان وسوريا، يظهر تشابه كبير، ما يشير إلى أنه جزءً من تراث مشترك لدول حوض البحر المتوسط لكن المصريون قاموا بإعداده بطريقتهم الخاصة وفرضوا هويتهم وذوقهم عليه، حيث أن المطبخ المصري مطبخ منفتح وقابل للاستيعاب. من جانبها، تشير الكاتبة في أدب الطعام رانيا هلال، إلى أن فكرة "الحشو" نفسها مصرية خالصة، تعود إلى عصور قديمة، مستشهدة بقصة كاهنة تدعى "كارا" قدمت قربانا عبارة عن خروف محشي. وتوضح أن المصريين عرفوا حشو الطيور والخبز قبل ظهور حشو الخضروات، الذي تطور لاحقا خلال العصر العثماني، قبل أن يعيد المصريون صياغته بإضافة الأرز والخضرة بدلا من اللحوم.