تحل اليوم الأحد الموافق 30 نوفمبر الذكرى الحادية عشرة لرحيل الكاتبة والأديبة والأستاذة الجامعية رضوى عاشور. صاحبة القلم الرشيق والرؤية النقدية العميقة للأدب والمجتمع. جمعت رضوى عاشور في أعمالها بين السرد الشخصي والتاريخي، لتسلط الضوء على قضايا الهوية، المرأة، والقضية الفلسطينية، وتميزت بأسلوبها الصادق والمباشر، وقدرتها على مزج الحكاية بالتحليل الاجتماعي والسياسي، لتترك أثرًا خالدًا في الأدب العربي. وفي السطور التالية، نسلط الضوء على كتابها الأخير «لكل المقهورين أجنحة». يتميز الكتاب الصادر عن دار الشروق، بأسلوب سلس وقصص مليئة بالصدق الناتج عن حديث شخصي وقدرة فريدة على السرد ومهارة في توجيه النقاش وجذب كبير لانتباه القراء مما يشجعهم على متابعة ما يروى بحماس لمعرفة التفاصيل. في كتاب «لكل المقهورين أجنحة» تتحدث رضوى عاشور عن أسبابها للكتابة وعن علاقتها باللغة العربية كتاريخ وفن جميل وما تحبه في الأدب العربي كما توضح كيف ظهرت الرواية في الشرق والغرب والصعوبات التي تواجه الكاتبات العربيات. تكتب عن الجامعة التي قضت فيها كطالبة ومعلمة معظم حياتها وتحكي عن المأساة الفلسطينية ومجزرة قرية «الطنطورة» التي سجلتها في رواية «الطنطورية». كما تعبر عن قلقها من تحويل الناس الى نسخة واحدة وإجبارهم على التفكير بطريقة موحدة الأمر الذي يسلبهم اختلافهم وحريتهم وقدرتهم على الابتكار والتفكير المستقل والنقد الواعي.
♦ «تأملات فى الرواية» الرواية فى فكر رضوى عاشور، هى النوع الأدبى الأكثر اشتباكا بالواقع التاريخى، وأنها فن مفتوح، مرنٌ فضفاض، أقرب لحوت الأسطورة فى قدرته على ابتلاع أجسام كاملة، حيث تسمح بنية الرواية ونسيجها بمزج المتخيَل بالوثائقى، والمشهد النابض بالفعل والحركة بالتفكُر والتأمل أو الخوض فى تفاصيل معرفية مجردة، تاريخية أو جغرافية أو قانونية أو علمية، ولذا فإن القول على أن لا رواية خارج التاريخ هو قول لا اختلاف فيه. تعود أصول فن الرواية إلى أوروبا حيث ظهرت فى إطار واقع اقتصادى سياسى بعينه، يرتبط بصعود البورجوازية والفرد والفردية، ومجموعة من الثورات الفكرية تخص إدراك الإنسان لذاته وللزمن ولعلاقته بالوجود، وعرفها «فيلدنج» بصفتها «ملحمة» ساخرة تكتب نثرا، وعرفها هيجل ولوكاتش ب«الملحمة البورجوازية»، ولأن الملحمة لم تكن جزءا من موروثنا الأدبى المعتمد، بقيت «السير الشعبية»؛ الشكل المرادف للملحمة فى تاريخنا الثقافى، منفية فى حيز الأدب الرفيع، محصورة فى الهامش بفعل صفاتها الشفهية الشعبية، غائبة عن النظر، حتى استقر جيل من الرواد فى بدايات القرن العشرين على مصطلح «الرواية». الرواية استعارت مهارة الحكى من الفنون الشعبية القديمة المشتركة بين كل الثقافات الإنسانية. بما فيها من حكايات شعبية وسير، وكتب الأخبار والتراجم والرحلات والرسائل وغيرها، وكلها رصيد للحكاء الراغب فى تعلم تفاصيل حرفته. بل إن كبار الحكائين لم يقتصروا أبدا على الروائيين والقصاصين، بل يسبقهم المؤرخون القدامى أمثال ابن كثير والمقريزى وابن إياس وابن تغرى وغيرهم من مدارس كبيرة لتعلم الحكى وفن الرواية. إن الأصل فى الرواية أن نحكى حكايتنا الدالة على موقعنا فى الزمان والمكان، نحكيها ونطرح من خلالها أرشيف الإنسانية الدال على عذاباتها ومخاوفها وأسئلتها ومساراتها وأشكال عنادها وتطلعاتها. ♦ «عن الطنطورية» «أريد للحكاية أن تصبح ذاكرة ووعيا وحسا وانتباها وخبرة»، بهذه العبارة تروى الأستاذة كواليس تأليف روايتها الشهيرة «الطَنْطورِيَة»، مشيرة إلى اختيارها الاسم نسبة إلى قرية «الطَنْطورَة» الفلسطينية، والتى استولت عليها العصابات الصهيونية بعدما أعدمت ما يقرب من مائتين من رجال القرية وحملوا من تبقى من الأهالى، النساء والأطفال خارج قريتهم، واقتياد من تبقى من الرجال إلى معتقلات جماعية للأسرى. الأماكن الواردة فى الرواية حقيقية بينما الشخصيات كلها متخيلة، وعن ذلك تقول: «رقية ووصال وصادق وحسن وأبو الأمين وعشرات الشخصيات الأخرى كأى شخصيات روائية جاءتنى كالعفاريت، لكنها عفاريت غريبة، مجبولة بطين التاريخ والجغرافيا والوقائع. قرأت كثيرا لأعزز معارفى عن التاريخ الفلسطينى: النكبة ومخيمات اللاجئين فى لبنان والحرب الأهلية اللبنانية والاجتياح الإسرائيلى للبنان عام 1982، ومذابح صبرا وشاتيلا. استمعت إلى شهادات مسجلة. تطلعت مطولا فى الصور والخرائط وحسبت المسافات بين قرية وقرية. ♦ «عن التعليم وتربية المقهورين» من سؤال لماذا لم تتمكن أى جامعة مصرية أو عربية أن تحفظ لنفسها موقع قدم فى قائمة الجامعات الخمسمائة الأفضل فى العالم. تنطلق رضوى عاشور، لتكتب عن حال الجامعات المصرية، بل وحال العملية التعليمية بأكملها وتدهور التعليم المدرسى، وترجع أسباب ذلك إلى التلقين والدروس الخصوصية وخروج الأولاد فى المدارس ولم يطلعهم أحد على مسرات البحث ومباهج المعرفة، ولا علمهم أحد أن المحاججة والنقاش والاستقلال بالرأى، محاسن تستحق التشجيع والثناء؛ فيصبح نتاج التعليم المدرسى فى الغالب الأعم افتقادا تام للقدرة على التفكير المركب والقبول بالسلطة المطلقة للمعلِم والكتاب المدرسى المقرر، الذى يصبح لاحقا الكتاب الجامعى. الكتاب الجامعى فى فكر رضوى عاشور يقتل فكرة الجامعة ومعناها ومنطق وجودها، فمن المفترض أن تكون قبلة الدارسين فى الجامعة هى المكتبة، يقرءون فى الموضوع وحوله، لمن يتفق مع أساتذتهم أو يختلف معهم. وأن الكتاب الجامعى، والدرس الخصوصى، والأستاذ الذى يملى على طلابه فكرته التى لا شريك لها، والعميد المعين، كلها عناصر منظومة كاملة تجسِدها قضبان الحديد. والمنطق الحاكم لتلك المنظومة هو الخوف: خوف النظام القائم والثقافة السائدة وشرائح واسعة مرتبطة بهما، من الطاقة البشرية وحرية إعمال العقل وحرية الفعل والممارسة، خوف تحركه القناعة بأن جميع هذه الطاقات ليست إلا تهديدا لا بد من مواجهته. ♦ «الضغوط التى تواجهها الكاتبات العربيات» فى هذا الفصل تُبين صاحبة تقارير السيدة راء، أن التراث الأدبى العربى الكلاسيكى يُقدم لنا عددا كبيرا من الشاعرات النساء؛ أقدمهن وأشهرهن الخنساء، وأن المرأة العربية ولا سيما المصرية والسورية واللبنانية، كانت بارزة ومنتجة فى الحياة العامة منذ أواخر القرن التاسع عشر، مع بداية تأسيس عدد من الجمعيات النسائية، وإقامة الصالونات الأدبية، ونشر الدوريات النسائية العربية التى وصلت إلى أربع وعشرين دورية قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، وأن مصر وحدها، نُشرت 571 سيرة ذاتية نسائية فى الفترة من 1892 إلى 1939. العائق الذى تناقشه رضوى هنا هو التناقض وأن تلك الأُطر المحدَدة للكتابة تروجها المؤسسة النقدية الذكورية والكاتبات النسويات على حد سواء؛ فإن كنتِ امرأة فالمتوقع منك حصرا أن تكتبى عن النساء وهيمنة الرجال والقضايا النسوية. يُضاف لهذا معضلة الانتماء والتواصل عبر لغة شديدة الثراء وموروث أدبى شكله وصاغ أغلب مفرداته الرجال بالأساس؛ كيف نستعين به ونستفيد منه ونطوره ليعبر عن رؤية نسائية جذرية معنية بالتفاصيل الدقيقة لرحلة الحياة العربية، وما نعانيه من مِحَن فى هذا العقد الأول من هذا القرن الحادى والعشرين؟ ♦ «رضوى تتحدث عن نفسها» هنا سيرة ذاتية كتبتها رضوى عاشور فى ومضات سريعة، «لابد أننى كنت بذرة صغيرة فى رحم أمى حين أسقطت الطائرات الأمريكية قنابلها الذرية على هيروشيما ونجازاكى فى 6 أغسطس 1945. ولدت فى القاهرة فى مايو التالى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بعامٍ واحدٍ، وقبل عامين من إنشاء دولة إسرائيل على أرض فلسطين. عشت فترة الخمسينيات والستينيات المذهلة من سن الرابعة وحتى الرابعة والعشرين. فى 1975، احتفلت مع أصدقائى وزملائى بتحرير سايغون؛ كنت حينها طالبة دكتوراه فى الولاياتالمتحدةالأمريكية أتخصص فى الأدب الأفروأمريكى. بعد خمسة وعشرين عاما، سأشاهد على شاشة التليفزيون بثا مباشرا لبغداد تقصفها الصواريخ والقنابل الذكية فى 1991 «المشهد الذى وصفه مراسل السى إن إن بشجرة كريسماس مبهرة»، وفى بثٍ مباشرٍ أيضا، سأشاهد القوات الأمريكية والبريطانية تستبيح غزو العراق فى 2003. شاهدت شعبى يخوض اثنتى عشرة حربا وعدة مذابح كبرى، وأن الألفية الجديدة، فى الجزء الذى نسكنه من العالم، وُصِمَتْ بهيمنة الولاياتالمتحدةالأمريكية دوليا وسياساتها الإمبريالية، والمجازر المتصلة فى العراقوفلسطين. أنا روائية وأكاديمية، أدرس اللغة الإنجليزية والأدب المقارن والنظرية النقدية بجامعة عين شمس بالقاهرة. وبجانب الأدب والنقد. لديَ شغف خاص بكتب المذكرات والسيرة الذاتية، والتاريخ، والمعاجم والموسوعات. من رواياتى السبع المنشورة؛ تدور أحداث أربعٍ فى القاهرة المعاصرة وتدور أحداث اثنتين فى الماضى. محاولاتى للكتابة ضربٌ من المقاومة الثقافية التى تنطوى جزئيا على حماية الذاكرة الجمعية، وهى محاولة لصيانة الثقافة ضد التهديد المزدوج بأن تفرض عليك ثقافة ما، أو أن تنفرط ثقافتك. إن تحدى الخطاب السائد (والتحدى فى حالتى قائم على ثلاثية الأمة والطبقة والجنس) بتسليط الضوء على التاريخ وإعطائه تماسكا ورؤية، والاجتهاد لاستدعاء كل الأمور المسقطة والمسكوت عنها، والمهمشة والمغيَبة فى حاضرنا وماضينا، وهذا مسعاى ومقصدى.