حدث هذا المشهد الذى يبدو للوهلة الأولى غير ذى معنى، فى بلدٍ عربى خليجى، وقبل رحيل الفنان حلمى التونى بعدد من السنوات. كنا معًا، هو وأنا، قد التقينا خلال مؤتمر فكرى فى هذا البلد، بعد حقبة طويلة لم نكن قد التقينا فيها، إذ رحلتُ أنا إلى باريس، وعاد التونى إلى القاهرة بعد غيبته وقد آنس فى وضعها السياسى الجديد قدرًا كافيًا من الديمقراطية وحرية التعبير. وهناك فى البلد الخليجى دُعينا ذات أمسية معًا إلى دارة مثقف كبير من أهل ذلك البلد. وكان من بين المدعوين عدد من كبار أهل الثقافة العربية، كما كان مدعوًا سفير شديد الأناقة يمثل بلد حلمى التونى نفسه. سلّم السفير على التونى بحرارة مبتسمًا ثم جلس على مقعد وثير، فبان تحت أناقة بذلته وحذائه زوجٌ من الشرابات مدهش فى قبح ألوانه وتنافرها التام مع بقية ما يرتدى الرجل. كان زوج الشرابات من الغرابة والقبح بحيث كشرنا التونى وأنا امتعاضًا، وهو سبقنى إلى تلك التكشيرة على أى حال بحيث بدا وكأنه استدعاها على محياى. ونظرنا إلى بعضنا البعض باشمئزاز، وتمتم صديقى: «أهذا سفير بلادى؟ الحقنى يا إبراهيم.. إننى أشعر بالقرف!». على لسان أى شخص آخر كان لمثل هذه العبارة أن تبدو مضحكة عابرة لا أكثر، أما بالنسبة إلى التونى فبدت محزنة. وكنت أنا أدرك ذلك لمعرفتى أن ذلك الفنان الكبير يهتم بالتفاصيل أكثر من اهتمامه بأى شىء آخر. فحلمى التونى، بعدما أحدث تلك الثورة التى نعرفها فى عالم الكتاب والإخراج الفنى فى فضاءات النشر العربى، بعدما عزز جماليات ذلك الكتاب بمساهمته عبر آلاف الأغلفة والتصوير الفنى، وبعدما رسم مئات اللوحات التى جعلت لقبه الرسمى «حافظ الهوية التشكيلية العربية»، وبعدما أوصل صناعة الكتاب العربى إلى أرقى ما وصلت إليه فى تاريخها، ولا سيما خلال حقبة منفاه البيروتى، ثم خاصة بعد عودته إلى وطنه كبيرًا وأنيقًا، فى الشكل والمضمون، لينتج بعمله التجديدى لوحاتٍ وأغلفة وملصقات وتصميمًا لأرقى المطبوعات، ما كان يمكنه أن يتسامح فى أى من التفاصيل. ومن هنا كان من الطبيعى له أن يعتبر مجرد ارتداء سفير بلاده لذلك الزوج من الشرابات فى سهرة أنيقة، خيانةً للذوق الفنى. وهى بالنسبة إليه خيانة للمنطق التشكيلى. ويعرف محبو حلمى التونى أن تلك الخيانة كانت بالنسبة إليه تعادل الخيانة العظمى ولو على مُصغّر. كان حلمى التونى مناضلًا من طراز شديد الأناقة، بطوله الفارع ونطقه الأنيق وإسراره فى خوض أى حديث يلمح من خلاله قدرًا من التعدى على الفن كوسيلة حقيقية للنضال السياسى حتى. ولأعترف أنه فى هذا المجال كان أستاذًا كبيرًا لى شخصيًا. وهو أمر تلمسته لديه وفى أكثر من مرة، ذات سهرة بيروتية هذه المرة. ففى بيت صديق لنا مشترك وكان الحضور من كبار المثقفين العرب، دار الحديث حول تراجع أناقة، بل حتى مضمون، المجلات الثقافية العربية لا سيما فى مصر خلال العصر الساداتى الذى كان حلمى التونى يتهمه بالافتقار إلى الأناقة الحقيقية. وفى حين راح الحضور ينددون بالتراجع فى المحتوى الذى بات يصيب ما يُنشر من مجلات مصرية فى هذا المجال، انبرى التونى بغضب ليقول إن التراجع الشكلى أكثر خطورة، قبل أن يستغرق فى محاضرة غاضبة تتعلق بأهمية الشكل والأناقة فى إعادة الناس إلى اقتناء الكتب، والمجلات الثقافية إلى غزو السوق واجتذاب القراء. كانت «محاضرة» بدا لى أن كُثرًا من الحاضرين يرونها مضجرة ولا تعنيهم، هم المناضلون الذين يؤلهون المحتوى والمضمون، بل بدا الضجر عليهم والتونى يدخل فى التفاصيل والألوان والخطوط والكادرات، وكأنه يرسم خطة حربية ماكيافيلية. أما أنا فكنت أصغى إليه بكل اهتمام، ووجدانى يخزن كل كلمة وتفصيل مما يقول. ومن هنا، بعد شهور من تلك الجلسة، حين أسست أول مجلة ثقافية كبيرة فى مسيرتى الصحفية ورأستُ تحريرها، استعدتُ دروس حلمى التونى وطبقتها على تلك المجلة التى حملت اسم «المسيرة»، ولفتت أناقتها الأنظار، دون أن يدرك كُثر أنها كانت تدين فى ذلك لحلمى التونى وربما بشكل حرفى. بل إن التونى نفسه سيسألنى لاحقًا: من أين ترانى أتيتُ بكل تلك «الأفكار التشكيلية النيرة» التى زرعتها فى مجلتى؟ دون أن يتنبه إلى أنها من بنات أفكاره هو. وأذكر أننى فى الجلسة التى بدأتُ بها هذا الكلام، اعترفت له بعد انتهاء عمر «المسيرة» بسنوات طويلة، أنه كان هو محرّك جمالها الحقيقى. وكانت تلك واحدة من «مكافأتين» قدمتهما له فى تلك الأمسية تعبيرًا عن امتنانى لاشمئزازه من «شرابات السفير». وكانت الثانية أننى حدثته عن مقال كان قد نشره الناقد السينمائى الفرنسى الكبير الراحل سيرج دانيه فى صحيفة «ليبراسيون» التى كان يكتب فيها تعليقات تلفزيونية بالغة الجمال واللؤم. كان عنوان المقال - كما أذكر - يتعلق بعدم رغبته فى التصويت، فى الانتخابات الرئاسية المقبلة، لمرشح الحزب الشيوعى أندريه لاجوانى. فلماذا ذلك الاستنكاف؟ لمجرد أن لاجوانى بدا فى لقاء تلفزيونى منتعلًا شرابات باذخة الألوان شديدة القبح. قلت ذلك وأنا أنحنى على محدثى الرائع أهمس فى أذنه أن قبح شرابات جورج حاوى البيضاء السخيفة ربما يكون واحدًا من الأسباب التى أبعدتنى عن الحزب الشيوعى اللبنانى! قلت ذلك بكل جدية وأنا أنثنى فى ضحكة مجلجلة ضافرت بينى وبين التونى، دون أن يفهم الحاضرون الذين التفتوا إلينا مندهشين سرّها.. ولا سرّ وشوشاتنا التى طالت حينها أكثر من اللازم، بل شارك فيها حتى سعادة السفير دون أن يفهم علاقته بها.