إذا كان الحكم الذى تصدح به قاعات المحاكم عنوانًا للحقيقة فى دروب العدالة، فإن الصندوق الانتخابى النزيه والشفاف يعد مرآة عاكسة وصادقة لقدرة الدول على تحصين نفسها أمام أى هزات سياسية قوية ومفاجئة قد تعصف بأمنها واستقرارها. التعامل مع صندوق الاقتراع باعتباره مجرد أداة للسيطرة والاستحواذ والتحكم والإقصاء، بدون النظر إلى الإرادة الحقيقية لجموع الناخبين ورغبتهم فى اختيار من يمثلهم ويعبر عنهم ويدافع عن مصالحهم ويشعر بمعاناتهم ويساهم فى حل مشكلاتهم، يعبِّد الطريق بلاشك أمام تبلور ظواهر سياسية غاية فى الخطورة على استقرار أى دولة، أهمها «العزوف الاختيارى» للمواطنين عن الذهاب إلى الصناديق المعروف سلفا نتائجها النهائية، ما يفقد أى مجلس نيابى الثقة والتأييد والدعم الشعبى اللازم لمنح التشريعات والقوانين التى يصدرها «صك الشرعية». هجر الصناديق أو «العزوف الاختيارى» عن المشاركة فى الاستحقاقات الانتخابية، كان إحدى سمات الحياة السياسية قبل ثورة 25 يناير 2011، إما لشعور المواطنين بعدم جدوى مشاركتهم فى التأثير على صانع القرار السياسى، أو ل«التدخل الثقيل» من جانب بعض الأجهزة، من أجل «هندسة» نتائج تلك الاستحقاقات وضبطها وفق هوى ومصالح السلطة القائمة وقتها، ما منحها دائما حرية فى الحركة والتصرف والقرار، من دون الخوف من نتائج الصناديق، التى كانت محسومة سلفا لصالحها!. بعد نجاح ثورة 25 يناير، شعر المصريون بلاشك بأن لأصواتهم قيمة مهمة فى المشهد، فبدأوا فى التعاطى بحماس بالغ وكبير مع قضايا الشأن العام، الأمر الذى انعكس على حجم المشاركة الشعبية فى الاستحقاقات الانتخابية المتتالية، لكن هذا الارتفاع فى حجم المشاركة، لم يتواصل بنفس الوتيرة فى الفترات الأخيرة وبدأ المواطن المصرى فى العودة إلى «ديدنه القديم» فى «العزوف الاختيارى» عن المشاركة. فقدان شهية المشاركة فى الاستحقاقات الانتخابية لم يأتِ من فراغ، وإنما كانت هناك الكثير من الأسباب التى ساهمت فى بلورة هذه الحالة، أهمها على الإطلاق الغياب الدائم للسياسة، والذى ترافق مع محاولات متواصلة للتضييق على المجال العام، وإطلاق العنان لخطاب إعلامى أحادى النزعة، جعل مختلف المنصات تتحدث بلغة ومفردات متشابهة تصل إلى حد التطابق، رافعة شعار «الاصطفاف خلف الدولة»، وكأن هذا الاصطفاف لا يتحقق إلا بالصوت الواحد، رغم أن التنوع والاختلاف والتعدد جوهر أى مشروع وطنى حقيقى لتشكيل جبهة متماسكة وموحدة تدعم الدولة وتساندها وتشد أزرها لعبور مختلف التحديات التى تعترض طريقها سواء داخليًا أو خارجيًا. الجولة الأولى من انتخابات مجلس النواب التى جرت مطلع الشهر الجارى لم تأتِ بجديد يذكر عما كان توقعه أو حذر منه البعض قبل انطلاقها، سواء من ناحية حجم المشاركة أو الملابسات التى أحاطت بعملية التصويت وسطوة المال السياسى والمخالفات الهائلة والفجة التى حدثت فى عدد من الدوائر الانتخابية، الأمر الذى دفع الرئيس السيسى شخصيا للتدخل ودعوة الهيئة الوطنية للانتخابات إلى «التدقيق التام عند فحص هذه الأحداث والطعون المقدمة بشأنها، وأن تتخذ القرارات التى تُرضى الله سبحانه وتعالى وتكشف بكل أمانة عن إرادة الناخبين الحقيقية». الهيئة الوطنية للانتخابات استجابت على الفور لدعوة مؤسسة الرئاسة، وقررت إلغاء نتائج انتخابات مجلس النواب فى 19 دائرة من دوائر المرحلة الأولى، وإعادتها مجددا بعد إجراء المرحلة الثانية من الانتخابات المقررة الأسبوع الجارى، مبررة ذلك بوجود «عيوب جوهرية نالت من عملية الاقتراع والفرز فى بعض الدوائر»، وفقا لتصريحات رئيس الهيئة المستشار حازم بدوى. قرار الهيئة الوطنية للانتخابات لم يلبِ أو يلامس سقف توقعات وطموحات البعض الذين كانوا يأملون بشدة فى إلغاء عملية الانتخابات الحالية بالكامل وإعادة صياغة قانون جديد للانتخابات يسمح بالمنافسة العادلة وتكافؤ الفرص بين جميع المرشحين ويصون ويحمى ويحافظ على كل صوت انتخابى للمواطنين، خصوصا وأن هناك دعمًا رئاسيًا غير مسبوق من أجل الوصول إلى «إرادة الناخبين الحقيقية»، و أن «يكون أعضاء مجلس النواب ممثلين فعليين عن شعب مصر تحت قبة البرلمان» مثلما جاء فى بيان الرئيس السيسى. الإنصات إلى حديث الصناديق واختياراتها فى إطار من الشفافية والمصداقية والتنافس العادل المحكوم بقواعد وقوانين واضحة تنحاز وتحافظ بشكل أساسى على أصوات المواطنين الانتخابية، يعد فرصة ذهبية حقيقية أمام أى دولة لتحقيق التنمية والتقدم والقدرة على تجاوز أزماتها وتحدياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن دون ذلك لن تكون مناعتها قوية وصامدة أمام أى هزات مفاجئة تستهدف أمنها واستقرارها.