الذاكرة هى بذرتنا الأساسية. وهو اليوم يتذكر وقع خطوات على الأرض أثرت فيه دون شك. طقطقة الأقدام وموسيقاها تدق فى رأسه، لكل شخص علامة مميزة تشبه بصمته الصوتية، وحين يغيب عزيز نتمنى لو ظل حفيف حذائه يقلق مناماتنا. منذ رحيل والده وهو يسمع صوت أقدامه خلال مشاويره الليلية المتكررة إلى دورة المياه، وقد دأب على مراقبة تغيره التدريجى بعد أن صار يسير بخطوات متابطئة مترددة خوفًا من السقوط والارتطام، ثم تفاقم وهن العضلات والعظام ودخل فى مرحلة الذبول، فكان يسحب رجله دون أن يرفعها ويُحدث رفيفًا يشبه حركة أجنحة الطيور، ومن بعدها كانت الاستعانة بالعصا الطبية فصار الصوت صوتين، واحد يسبق الآخر.. صوت العصا المعدنية المدببة على الأرض يتبعه وقع القدم الذى يتكأ عليها أكثر أثناء المشى. توارت صورة الديكتاتور الصغير الذى لا يُهزم وطغت عليها ملامح الرجل الغاضب، تحدق عيناه بتحفز وحذر. وأخيرًا كان الغياب، فذهبت فجأة كل تلك الإيقاعات بلا رجعة. • • • خلال سنوات الطفولة الأولى كان يهوى اللعب فى الممر الطويل الذى يؤدى إلى غرفة نوم أبيه مرتديا قبقابا بنعل خشبى أهداه إياه أحد أصدقاء العائلة. لا زال نقره محفورًا فى مخيلته رغم اختفاء «المركوب» فى ظروف غامضة، نظرًا لأن كل الكبار اجتمعت مصلحتهم على ذلك حتى يتمكنوا من الاستمتاع بفترة القيلولة. مثل كل الصغار تعلم المشى «تا.. تا» كما يقولون منذ عهد الفراعنة بسبب صوت خطواته ووقوعه على الأرض، اختبر معنى استقامة الجسم فوق القدمين وتوزيع الوزن بشكل متساوٍ، ومن بعدها استقامة الأخلاق، وتعود أن يحافظ على محاذاة المفاصل، معتمدًا على طريقة «المحاولة والخطأ». خطوات صغيرة بأقدام حافية بيضاء مكتنزة اللحم. لا شىء يعلو على المشى بأقدام عارية، فحين نتخلص من قالب الحذاء الذى يقاوم الطبيعة نصبح أحرارًا ونتمكن من الإدراك الحسى العميق فنشعر بالقوة وموقع جسمنا فى الفضاء بشكل تلقائى، أما لبس النعال فلا يمكننا من تحريك سوى عشرة فى المئة من العضلات. ليت الراحة تعود يومًا! جسمانيًا ونفسيًا، ويرجع إلى تلك الأيام التى كان يشاغب فيها أمام غرفة والده ويستيقظ على صوت تدريبات الطلاب فى إحدى الكليات العسكرية بالقرب من منزلهم. صباحاته كانت تبدأ لسنوات بهذا الطريق الإيقاعى الناجم عن حركات الصفا والانتباه، على قلب رجل واحد.. تدريبات تمهد للسير بخطوات واثقة وتولى مناصب عليا فى المستقبل... يدقون الأرض بكعوبهم كمن يطلق بوق سيارته عاليًا ليجبر المارة على إفساح الطريق، فهناك خطوات تؤدى إلى القوة والصولجان، تشى بأن صاحبها من ذوى الشأن ولا يشق له غبار. هذه الرغبة فى فرض السيطرة لمحها فى خطوات رئيسته بالعمل، لاحقًا خلال مشواره المهنى. سيدة قلقة بطبعها، تدرك أن الحصول على منصبها القيادى فى مثل سنها فرصة نادرة. تملؤها الطاقة والشجاعة ويصرخ كعبها مع كل خطوة «يا أرض اتهدى ما عليكى قدى»، فى حين يخشى هو الخجول المنطوى أن تقترب من مكتبه. لا يحتمل التعامل مع السلطويين، لكن على ما يبدو كُتب عليه ذلك. يسعى للهرب منها فى كل مرة مثلما كان يهرب من زوجته السابقة، هى الأخرى كانت تعذب نفسها بارتداء كعوب عالية تزيد من أنوثتها، لكنه أبدًا لم يهوَ سطوتها. لذا لم يتقدما قط بوتيرة واحدة، وله نظرية بهذا الشأن تسمح بقراءة تناغم العلاقات من خطوات الأقدام. • • • لاحظ مع الوقت أنه فى حالة انسجام أى ثنائى نسمع وقع أقدامهما وكأنهما شخص واحد، يكون بينهما توافق عجيب فى الإيقاع، أما فى حالته هو وزوجته كان هناك دائمًا طرف يحاول اللحاق بالآخر، هى تسير بخطى ثابتة وهو خلفها بخطوات ثقيلة سريعة وإيقاع غير منتظم، مثل نوت موسيقية تُعزف باستعجال دون تآلف. فى النهاية تعب وسعى إلى الطلاق، وانسحب من مؤسسة الزواج للعيش مع والده والاعتناء بصحته التى كانت قد بدأت فى التراجع. احترم الإيقاع الخاص بجسده، فلم يزعجه قط أن يكون الشخص الخجول الذى لايحب التجمعات الكبيرة، والذى نكاد لا نسمع صوت خطواته، فموسيقاها متحفظة هادئة تردد لحن «إنسونى ولا تتوقفوا كثيرًا عند وجودى، هذه رغبتى فاحترموها». هو نفسه لا يستمع إلى نفسه. ضجيج النهار لا يسمح بذلك، أما فى الليل فيستحضر أصوات أصحاب الخطوة. القريبون منهم للقلب والبعيدون. يراقب وضعية أجسامهم أثناء المشى وحركاتهم وصوت أقدامهم حين تلامس الأرض أو ترتطم بها. لا يفعل كثيرون ما يفعله، فعادة لا أحد يعول على صوت الأقدام، فى حين لها موسيقاها الخاصة التى تسمح لنا بالتكهن بالعديد من التفاصيل. يحزر من يقترب منه، ونادرًا ما يفشل فى تخمين شخصية القادم صوبه.