«نهر النيل قدس الأقداس للمصريين» هذا ما قاله السيد وزير الرى خلال حوار حول أراض طرح النهر التى تعرضت للغرق فى الأسابيع الماضية. فى حديثه حمل السيد الوزير مسئولية المشاكل التى حدثت لمن قاموا بالبناء فى طرح النهر. تساءلت فى ذهنى هل يمكن أن نقارن ذلك بما تابعته على مدى شهور فى ذهاب وعودة بدراجتى من بناء كبير على شاطئ النيل، والذى فوجئت منذ أيام باسم المؤسسة العامة التى من واجبها حماية النهر يُوضع على الواجهة. وضعت هذا بجوار ما قرأته مؤخرا من إعلان وزارة الإسكان عن قيامها بحصر الأراضى على طول كورنيش النيل تمهيدا لاستغلالها وهو ما يبدو تنفيذا لدعوة السيد رئيس الوزراء لاستغلال الأراضى المطلة على النهر. هناك بلا شك خطر من البناء بالقرب من النهر، فهل يجب أولا أن نتوقف قليلا ونحاول أن نفهم بصورة أفضل طبيعة تلك المنطقة، وما يواجهها، وكيف يجب أن نتعامل معها أم علينا أن نقتنص الفرصة السانحة لاستغلال تلك الأراضى؟ كيف نتعامل مع النيل، وكيف نرتقى بهذا التعامل مع من يمكن اعتباره «مقدسا» أو من الأفضل النظر إليه ككائن «حى» يحتوى ويدعم العديد من الكائنات الحية، ومنها نحن؟ يمكن أن نبدأ من مراجعة القانون رقم 147 لسنة 2021 الخاص بالموارد المائية والرى لنرى فى مادته الأول كيف يتم تعريف حد حرم النهر بأنه يمتد حتى مسافة 80 مترا خارج خطى التهذيب فيما عدا المناطق المحدد لها خطوط تنظيم معتمدة فيكون حد الكورنيش هو حرم النهر. وخط التهذيب هنا، كما يعرفه القانون، هو الخط الذى يحدد المنطقة اللازمة لاستيعاب التصرفات القصوى لنهر النيل وهو يقع خارج منطقة القطاع المائى وتحدده الوزارة. كما يتم تعريف مجرى نهر النيل بأنه هو كل ما يقع داخل حدى حرم النهر. ويعرف القانون ما يطلق عليه «المنطقة المحظورة» والتى يحظر فيها إقامة أى منشآت إلا بعد موافقة الوزارة بالمنطقة الواقعة خارج خطى التهذيب حتى 30 مترا. باقى المنطقة بعد ال 30 مترا حتى ال 80 مترا داخل الحرم تعرف بالمنطقة المقيدة. حرم النهر فى القانون يقابله فى فهم طبيعة النهر ما يطلق عليه «شريط الضفة» أو المنطقة الانتقالية بين المنظومة الطبيعية للأرض وتلك الخاصة بالنهر. وتشير دراسات المنظومات الأيكولوجية النهرية أن تلك المناطق يجب ألا يقل عرضها عن حوالى عشرين إلى ما يقارب الخمسين مترا، وهو ما يعنى أن حدود الحرم فى القانون كافية إلا فى المناطق العمرانية التى يقترب التخطيط المعتمد لها من النهر كثيرًا. • • • شريط الضفة له أدوار هامة، خاصة، عندما تكون الكائنات الطبيعية به فى حالة جيدة، فهى مثلا تقوم بتنقية المياه الناتجة عن الجريان السطحى (مثلا بعد سقوط الأمطار على الشارع المجاور) حيث تقوم النباتات الخضراء بتقليل سرعة المياه السطحية الجارية (خاصة فى مدن شمال الدلتا) كما تقوم جذور تلك النباتات بامتصاص المياه السطحية بدلا من أن تجرى سريعة للمجرى المائى حاملة أنواعا متعددة من الملوثات. وتشير بعض الدراسات إلى قدرة النظام النباتى على أن يمتص حوالى 90٪ من الأتربة العالقة وحوالى 65٪ من النيتروجين و30٪ من الفسفور. ويعنى هذا مساهمة كبيرة فى الحفاظ على جودة المياه فى النهر. كما أن جذور الأشجار والنباتات تساعد على التحكم فى النهر حيث تقوم بإمساك طبقات من التربة التى تعمل كغراء يحافظ على استقرار الشاطئ وحمايته. وبالحيلولة بين الأمطار وسقوطها المباشر على التربة تقوم أوراق النباتات بحماية الطبقة السطحية للتربة من الإنجراف. وتعمل النباتات التى تنمو مباشرة على الشاطئ على امتصاص طاقة الأمواج، والتى يمكن أن تؤدى إلى تآكل ضفاف النهر. يقوم هذا الشريط الحيوى - أيضا - بالمساعدة فى إدارة مياه الأمطار والفيضان، خاصة، عندما تدخل المياه المجرى المائى الطبيعى بكميات زائدة عن قدرته الاستيعابية حيث تعمل نباتات ضفة النهر التى بحالة جيدة على التعامل مع التفاوتات الناجمة عن مختلف العوامل الطبيعية: ومنها زيادة الأمطار والفيضان دون حدوث أضرار كبيرة. تقوم أيضا تلك الضفة، عندما تكون حالتها جيدة، بتوفير موائل طبيعية للنباتات والكائنات البرية والأسماك تعتمد عليها بنسبة تقارب من 90٪ عبر مختلف دورات حياتها فهى بالنسبة لهم مصدر للغذاء ومأوى ومكان للهجرة وللتزاوج ورعاية الصغار. كما تمثل نباتات ضفة النهر مسارا للكائنات المختلفة يساعدها على التنقل بين الأرض والماء. وتوفر أجزاء النباتات الساقطة فى الماء موئلا للحياة النهرية. ولأن كائنات النهر والأسماك تسهم فى الحفاظ على جودة المياه فإن العديد من المنافع المتبادلة تحدث بصورة مستمرة. كما توفر تلك الموائل الطبيعية دعما هاما للطيور المهاجرة فى مواسم الهجرة المختلفة. تسهم النباتات والأشجار فى تلك المنطقة فى تخفيض الحرارة وتوفير الظل للكائنات البرية على أرض الضفة، وأيضا تلك التى فى الماء وهو ما يوفر ملاذا هاما خلال درجات الحرارة العالية صيفا. كما توفر تلك المنطقة، التى وصفتها بعض الدراسات بشريط الحياة، فرصا متعددة للترفيه حيث تشكل النباتات، وخاصة البرية منها والمختلفة الكثافة على امتداد ضفة النهر، فرصا متعددة للأنشطة الرياضية مثل المشى والجرى وركوب الدراجات، كما تمثل مكانا مثاليا للتواصل مع الطبيعة وممارسة التأمل والابتعاد عن ضغوط الحياة اليومية. يمكن لهذا الشريط الحيوى للغاية من شاطئ النهر أن يكون حليفا عظيما لنا فى محاربة التغير المناخى عن طريق امتصاص ثانى أكسيد الكربون بواسطة النبات والأشجار والحشائش البرية التى تشكل منظومة خضرية مركبة، وأيضا من خلال التربة التى تحتوى على نسبة عالية من المادة العضوية التى تقوم بتخزين كمية كبيرة من الكربون لسنوات عديدة. • • • تتعرض هذه المناطق البيئية الحساسة لأخطار عدة على امتداد نهر النيل سواء لإخلائها لأغراض الزراعة أو بسبب أنواع التلوث المختلفة أو الزحف العمرانى أو لزراعة النباتات والأشجار التجارية غير البرية.. وغيرها. وهذه الأخطار ونتائجها السلبية لا تقف عند حد تلك الضفاف النهرية ولكنها تتمدد فى المنظومات المائية والأرضية. وفى وقت تتعاظم فيه مخاطر كارثة التغير المناخى وتدهور التنوع الطبيعى لا نملك رفاهية أن نغض الطرف عن هذه التحديات. والخطوة الأولى فى تلك المواجهة هى استعادة الحياة لضفة النهر، التى تبدأ من استعادة المنظومة النباتية المركبة من أشجار وشجيرات وحشائش برية لاستعادة التكامل لتلك المنطقة الطبيعية وللبدء فى استعادة الوظائف الهامة المختلفة للمنطقة. • • • من الصعب تغيير ما تم بناؤه كما أنه من غير الممكن العودة بالزمن للوراء، ولكن يمكننا أن نفكر - مثلا - فى أفرع تلك «المؤسسة» فى المدن الأخرى على امتداد مصر، وكيف يمكنها أن تقوم ببناء مكاتبها على صورة عائمة فى النهر مصممة بصورة لائقة لتستوعب المكاتب المطلوبة، على أن يستخدم الشاطئ الخاص بها والمزروع بالنباتات والأشجار والشجيرات البرية لاستقبال الضيوف ولإقامة الاجتماعات والمناسبات الكبيرة تحت مظلة منسوجة من أفرع نبات الحنة - مثلا - بصورة تمكنا من طيها بعد كل حدث لتمكين الشمس من الوصول لكل شريط الضفة. ألن يكون ذلك أوثق صلة بالمهمة الرئيسية لتلك المؤسسة التى تقوم على حماية النهر وتقدم قدوة حقيقية ورائعة لباقى المؤسسات والأنشطة التى تتطلب أن تكون على هذا القرب من النيل؟ المبانى العالية القريبة من النيل تشكل تهديدا خانقا لتلك الحياة الغنية التى من المهم جدا لنا أن تستعيد عافيتها وتزدهر على شواطئ النهر بما تنتجه من مخلفات سائلة وصلبة وغازية، حتى وإن تم جمع جزء منهم. لا أستطيع أن أعيد الزمن إلى ما قبل بناء الأبراج بامتداد كورنيش بولاق لكى أتخيل تلك المنطقة وقد تحولت إلى حدائق غناء بدلا من تلك الأبراج، لكننى أستطيع أن أتخيل تلك الأراضى التى تسعى الحكومة لاستغلالها وقد تم تحويلها لحدائق عامة تمتلئ بالأشجار والشجيرات والحشائش البرية وتشارك شريط الضفة فى إنتاج كل تلك المنافع الأيكولوجية الحيوية. هل من الممكن أن يكون ذلك بداية جديدة للمدينة؟ فى الأغلب نعم. وهو ما يدفعنا للتساؤل عن قيمة تحسن صحة وحياة المواطنات والمواطنين، وهل يمكن مقارنته بالعائد المادى القريب الذى يصاحبه، على المديين المتوسط والطويل، التلوث وتهديد حياة النهر ومنظومة المياه والهواء فى المدينة لو تم فعلا استغلال تلك الأراضى لبناء فنادق فاخرة ومبانٍ أخرى تجارية؟ أستاذ العمارة بجامعة القاهرة