سوف يبقى الظل الذى يلوح فوق إسرائيل إلى أن يحصل الفلسطينيون على دولتهم «الشرعية» داخل حدودها المعترف بها دوليًا. اللحظة تلك اللحظة التى بعد سنوات عديدة من العمل الدءوب والرحلة الطويلة، تقف فيها وسط حجرتك، بيت، نصف فدان، متر مربع، جزيرة، بلد. تعرف فى النهاية أنك وصلت إلى هناك وتقول، إننى أمتلك ذلك،فى اللحظة نفسها التى تصبح فيها الأشجار غير طليقة، أذرعها الناعمة من حولك تحيط بك، الطيور تهجر لغتها، الجروف تتصدع وتنهار، يتحرك الهواء بعيدًا عنك كأنه موجة ولا تستطيع التنفس. يهمسون قائلين لا، إنك لا تمتلك شيئًا. لقد كنت زائرًا، المرة بعد المرة، تتسلق التل، وترفع العلم، وتجهر بالإعلان. نحن لم نكن لك قط. إنك لم تجدنا قط. كان الأمر دائما على العكس من ذلك. كنت فى إسرائيل مؤخرًا، وقابلنى الإسرائيليون بحفاوة بالغة. رأيت العدد من الإنجازات المثيرة للإعجاب، والمشروعات الخلاقة، وتحدثت مع أفراد كثيرين من مشارب مختلفة. كانت الشمس ساطعة، والأمواج تتلاطم، وكانت الزهور فى ناضرة. السائحون يهرولون إلى الشاطئ فى تل أبيب، كما لو أن كل شىء طبيعى. لكن...ها هناك كان الظل (shadow) مخيما. لماذا كانت جميع الأشياء ترتعش قليلاً وكأنها سراب؟ لماذا كانت تلك لحظة تماثل تلك السابقة على التسونامى، حيث كانت الطيور ترتفع لتبلغ رءوس الأشجار، وتصعد الحيوانات إلى التل لشعورها بقدومه. قال لى شخص ما: «أستيقظ كل صباح ولدى شعور بالخوف». وقال آخر: «إنه مجرد رثاء للذات وإيجاد عذر لما يحدث». وبالطبع يمكن أن تكون مشاعر الخوف والرثاء للذات حقيقية، لكنهما عندما كانا ينطقان بعبارة «ما يحدث» كانا فى الواقع يعنيان الظل المخيم على الجميع. قيل لى إن الإسرائيليين سوف يحاولون ستر هذا الظل. لكنهم بدلاً من ذلك، ظلوا يتحدثون عنه بلا توقف. فبعد دقيقتين من بدء أية محادثة، يظهر الظل. لكنه لا يسمى الظل، بل «الموقف»(situation). وهو يسكن كل شىء. ليس الظل هو الفلسطينيون، بل إنه معاملة إسرائيل للفلسطينيين، المرتبطة بمخاوف الإسرائيليين الذاتية. وكلما جرى التعامل مع الفلسطينيين بطريقة أسوأ بدعوى تلك المخاوف، أصبح الظل أكبر، وزادت معه المخاوف، وبالتالى تتضاعف مبررات هذه المعاملة. تعتبر محاولات إسكات الانتقادات مشئومة، مثلها مثل اللغة المستخدمة. فبمجرد أن تبدأ فى مناداة الناس بأسماء مهينة، ك«الأفاعى»، فإنك بذلك تقوم بإفنائهم. وسوف أشير إلى مثال واحد، وهو أن هذه الأسماء أطلقت على قبيلة التوتسى قبل شهور قليلة من بدء المذبحة ضدهم فى رواندا. فقد أظهرت الدراسات أن الناس العاديين يمكن دفعهم إلى ارتكاب أهوال إذا ما قيل لهم إنهم يقومون بذلك دفاعا عن النفس، من أجل «انتصار» أو فائدة من الإنسانية. لم أذهب إلى إسرائيل من قبل، باستثناء هبوطى فى المطار. ومثلى مثل الكثيرين من أولئك الذين على الهامش حيث إننى لست يهودية ولا إسرائيلية ولا فلسطينية ولا مسلمة لم أتابع «الموقف» عن قرب، بالرغم من أننى مثل أغلب الناس، شعرت بالأسف إزاء العنف وتمنيت أن تكون النهاية سعيدة بالنسبة للجميع. ومرة أخرى كشأن من هم مثلى من معظم الناس، أفضل تجنب الحديث فى الموضوع لأن ذلك سرعان ما يتحول إلى مباراة للصراخ. (لماذا حدث ذلك؟ عندما يجد العقل أمامه خيارين غير محببين إليه، فإنه يختار أحدهما باعتباره أقل سوءا، زاعما أنه خيار جيد، بينما يقوم بتشويه الآخر). كان لدى خلفية تعود إلى زمن بعيد. عندما كان وفد مدرستى الثانوية يمثل «مصر» فى نموذج الأممالمتحدة عام 1956، قام بعرض رؤية للقضية الفلسطينية. لماذا يعتبر عدلاً أن يفقد الفلسطينيون الذين لا علاقة لهم بالهولوكست منازلهم؟ وهو ما رد عليه من يقومون بدور إسرائيل قائلين: «أنتم لا تريدون لإسرائيل أن توجد». وبعد مرور عقد على معسكرات الاعتقال وإبادة ستة ملايين شخص، أصبحت هذه العبارة تستخدم لإسكات المعترضين. ثم عملت بعد ذلك فى برنامج عن الطبيعة بمعسكر صيفى يهودى ليبرالى. كان المشاركون أذكياء ومرحين ومبدعين ومثاليين. وتحدثنا طويلا عن السلام العالمى والإخوة الإنسانية. وأستطيع القول إن ذلك كان مختلفا عن تجربة نموذج الأممالمتحدةالفلسطينى. فهل يلغى الواقعان أحدهما الآخر؟ بالتأكيد لا، ومن المؤكد أنه كان من الممكن أن تؤدى أشكال سلوك التآخى اليهودى الإنسانى المتعددة التى نراها فى كل من معسكرات الصيف وفى داخل إسرائيل نفسها إلى تفهم هذا الصراع بطريقة منصفة فى وقت قريب. لكن هذا لم يحدث. فنحن لسنا فى عام 1956. وقد تغير النقاش بشكل كبير. تعرضت للهجوم مؤخرا بسبب قبولى لجائزة ثقافية سبق وحصل عليها آخرون مثل أتوم أجويان وآل جور وتوم ستوبارد وجونان محمد ويو يو ما؛ هذه الجائزة لا تمنحها جهة تابعة لدولة إسرائيل كما قد يعتقد البعض، وإنما لجنة معتدلة تابعة لمؤسسة مستقلة. وهى جماعة تتبنى الديمقراطية الحقيقية، والحوار المفتوح، وحل الدولتين، وتسوية الخلاف. وعلى الرغم من ذلك فإننى أسمع الآن كل ما يشين إسرائيل وعليه، تلقيت دورة مكثفة، مفاجئة وإجبارية، فى السياسة. كانت التجربة ككل كأنها درس فى الطهى يلقى فيه بالطالب فى إناء الحساء. كانت أكثر اللغات قسوة معادية للسامية بحق (مقارنة بالتعبير الذى يستخدم عادة للتشويش على النقد). وكانت هناك حوارات ساخنة بين الناشطين حول «جدوى» مقاطعة إسرائيل؛ وهل يتمثل الحل فى إقامة دولة واحدة أم دولتين؛ وهل تستثنى الثقافة من المقاطعة، بوصفها جسرا، أم أن هذا مجرد وهم زائف؟ وهل تعبير «التمييز العنصرى» صحيح، أم أنه إلهاء بلا طائل؟ وماذا عن «عدم شرعية» دولة إسرائيل؟. وبمرور العقود، اكتسب الجدل مفرداته الخاصة ومجموعة من الطقوس التى لا يفهمها ببساطة من ابتعدوا عن الجامعات وأنا من بينهم. بدأ أصحاب النفوس الطيبة، الذين أغضبهم الإحباط وغياب العدل، يصرخون فى وجهى؛ لكن حين ذاك، بعد أن اعتبرت نفسى طفلا صغيرا يتسكع بين السيارات، أصبحتُ مفيدة للغاية. استنكر آخرون إشارتى إلى منظمة «بن» PEN الدولية وجهودها لإطلاق سراح الكتاب السجناء، التى تعوقها مقاطعة إسرائيل ثقافيا، واعتبروها لغوا لا طائل من ورائه. (وهو ما هللت له كل الحكومات القمعية، والمتطرفون الدينيون، وجماعة السياسيين المتشددين فى أركان المعمورة، الذين يقفوا وراء منع وسجن ونفى وقتل كثير من كتاب الأدب). لم يغير شىء من هذا من الطبيعة الأساسية للواقع، وهو ما يعنى وجود عقبات أمام رؤية إسرائيل كدولة إنسانية وديمقراطية تعانى مأزقا خطيرا. فما أن يبدأ بلد فى منع دخول رجال مثل نعوم شومسكى إلى أراضيه ومصادرة حقوق مواطنيه فى استخدام تعبير مثل «النكبة» ويصف كل من يحاول إبلاغه بما يجب أن يعرفه بأنه «معاد لإسرائيل»، فإن قمع الدولة البوليسية يلوح فى الأفق. هل سنشهد خيانة التقاليد الإنسانية اليهودية العريقة وسيادة القانون العادل، أم سنتحول باتجاه حل المشكلة وبناء مجتمع مفتوح بحق؟ إن الوقت يمر. وقد تكون هناك آراء متصلبة فى إسرائيل، لكن الأمور فى الولاياتالمتحدة تسير فى الاتجاه المعاكس. والأنشطة الطلابية فى الجامعات فى تزايد؛ وكثير من الشباب الأمريكى اليهودى لا يريدون أن تتكلم إسرائيل نيابة عنهم. ولا بد أن يأتى وقت ترى فيه أمريكا، التى تخوض حربين لا يمكن التنبؤ بنهايتهما وتواجه غضبا دوليا متزايدا بسبب مشكلة فلسطين، إسرائيل كعبء لا كسند. هناك أناس مثلى. ولأننى اهتممت مؤخرا بالانقراض الضخم للأنواع والكوارث الطبيعية، ومن ثم تجولت فى منطقة الشرق الأوسط بعقل منفتح إلى أقصى ما يمكن لكنه ليس شاغرا تماما؛ تغيرت نظرتى. قتل الأطفال فى غزة؟ قتل مقدمى المساعدات على ظهر السفن فى المياه الدولية؟ إصابة مدنيين بسوء التغذية بسبب الحصار؟ منع دخول ورق الكتابة؟ منع البيتزا؟ أى حقارة وأى انتقام! هل البيتزا من أدوات الإرهاب؟ وهل يوافق على هذا معظم الكنديين؟ وهل أُعتبر إرهابية عندما أقول هذا؟ لا أعتقد ذلك. هناك الكثير من المجموعات التى يعمل من خلالها الإسرائيليون والفلسطينيون معا فى مناقشة المسائل ذات الاهتمام المشترك، وهذا يعكس آفاق مستقبل إيجابى، لكن الظلال ستبقى حتى تحل المشكلة البنيوية ويحصل الفلسطينيون على وطنهم «الشرعى» فى إطار حدود معترف بها دوليا. يقول كثير من الإسرائيليين: «نحن نعلم أن علينا حل المشكلة». ويقول أحد الفلسطينيين: «علينا أن نتجاوز ثنائية «هم» و«نحن» إلى «نحن» فقط. وهذا فهم يبعث على الأمل. ويرى كل من الإسرائيليين والفلسطينيين أن المنطقة ككل معرضة للأخطار، بفعل ارتفاع حرارة الكون ونضوب المياه. وهما خطران لن يؤديا إلى المحو أو الإبادة، إلا أنهما خطران حقيقيان. وأى كارثة تحل بأحدهما ستطال الآخر أيضا.