المتأمل فى موقف الشعب من صعود منتخب مصر إلى كأس العالم يكاد لا يُحصى الدروس والعِبَر والإضاءات. أذكر كيف خرجت مصر كلها إلى الشوارع فرحًا عند صعودنا إلى كأس العالم فى إيطاليا 90. كنت صغيرًا، لكننى خرجت رفقة إخوتى لاقتسام تلك الفرحة الكبيرة مع الجموع. بالتأكيد تغيّر الزمن وتغيّرت قواعد الوصول إلى الكأس، وتغيّرت مساحة الخروج إلى الشوارع، لكن لا أحد ينكر أن الشعب لم يفرح اليوم بأى صورة أمكن التعبير عنها. أعتقد أن أحد أهم الأسباب هو أننا لا نشعر أن هذا الفريق يستحق الفوز بالفرصة التى حُرم منها أجيال من عظماء اللعبة فى مصر، أصحاب المهارة واللعب الجماعى. الخوف كبير من الانتكاسات وخيبات الأمل، والقلق من شحوب الأداء خلال التصفيات أكبر. لكن هل تظن أننى معنى بكرة القدم إلى هذا الحد؟ أو أننى أجعل من وصول منتخب لعبة إلى تصفيات مسابقة عالمية حدثًا وطنيًا؟! إذن عليك أن تفكر مرتين. أنا مهموم باقتصاد مصر، مهموم بالخروج من الأزمات الاقتصادية بأقل قدر ممكن من المعاناة الشعبية. وفى هذا، أنا معنى بفهم سلوك المواطن الذى لا يعبأ بتحسّن أرقام وبيانات الاقتصاد الكلى، على الرغم من الطفرات النسبية التى تحققت مؤخرًا. ما يمكن استخلاصه من موقف الشعب من الصعود إلى تصفيات كأس العالم هو أن الثقة فى البناء على تلك النجاحات المرحلية تتراجع، نظرًا لتعدد الانتكاسات، ونظرًا لكون «فريق الاقتصاد» لا يمكنه أن يحقق النصر ما لم تكن المؤسسات فى وضع أفضل، وما لم يكن المجتمع صحيح الجسد والرأس، وما لم تكن قنوات توزيع الدخول والثروات تمرر تلك النجاحات الرقمية إلى الأفراد. لقد خبت مشاعر الزهو الجماعى التى كانت تهتز لها الأرجاء لمجرد تحقيق إنجاز رمزى، لأن المواطن صار أكثر واقعية وأقل استعدادًا للاحتفال. فهو يدرك أن الاحتفالات لا تُطعم خبزًا، وأن العَلَم الذى يرفرف فى الملاعب لن يرفرف فوق موائد العائلة إلا إذا اتسعت قدرته الشرائية. المواطن الذى كفّ عن الانتشاء بانتصارات رمزية يحسبها لن تعود بالنفع إلا على لاعبى المنتخب المسافرين إلى العالم الجديد، هو ذاته الذى فقد الثقة فى أن النجاحات الاقتصادية ستصل إليه. تلك الظاهرة ليست مصرية خالصة، بل تكاد تكون قانونًا اجتماعيًا ثابتًا فى فترات الضيق الاقتصادى. • • • فى أواخر الثمانينيات وبدايات التسعينيات من القرن الماضى، واجهت الأرجنتين تضخمًا مفرطًا أعقبه انكماش قاسٍ بفعل سياسة تثبيت العملة وبرامج صندوق النقد الدولى. ورغم ما بدا من نجاح فى كبح التضخم، إلا أن آثار الركود وتزايد البطالة أضعفت الثقة العامة فى المؤسسات. ورغم بقاء الحماسة لكرة القدم قوية فى بدايات العقد، فإنها بدأت تتراجع تدريجيًا مع تكرار الانتكاسات الاقتصادية، خصوصًا بعد أزمة 2001، حيث وصف باحثون أرجنتينيون الحالة الاجتماعية آنذاك ب«الإحباط التراكمى» نتيجة الفجوة بين رمزية الانتصارات الرياضية وواقع المعاناة المعيشية. وفى ثمانينيات القرن الماضى شهدت البرازيل مشهدًا مماثلًا، فى خضم أزمة الديون التى عصفت بالبلاد. بينما كان التضخم يصل إلى مستويات قياسية (بلغ 239% فى عام 1985) وتتآكل القوة الشرائية للمواطنين، قدم المنتخب البرازيلى لكرة القدم عروضًا مبهرة على أرض الملعب، غير أن هذا الأداء الباهر لم ينجح فى التغطية على الإحباط الجماعى السائد، مما خلق تناقضًا صارخًا بين البهجة التى ولّدها الفن الكروى والمعاناة الناتجة عن الظروف الاقتصادية الصعبة. ويمكن فهم هذا التناقض فى ضوء ما أشار إليه عالم الاجتماع البرازيلى «فرناندو هنريك كاردوزو» الذى صار لاحقًا رئيسًا للبرازيل فى أعماله المبكرة حول التنمية؛ حيث رأى أن الظروف المعيشية المضطربة تقوّض أسس التماسك الاجتماعى. حتى أعمق المشاعر الجمعية، مثل الشغف الرياضى، قد تفقد قدرتها على تجميع الناس عندما تستنزف هموم الحياة اليومية طاقاتهم. هذا المبدأ يساعد فى تفسير ما نشهده اليوم فى بلادنا؛ فالشغف كالاستثمار لا ينمو فى تربة الخوف وعدم اليقين. ترى إذن المواطن المصرى فى متابعته لانتصارات الكرة والاقتصاد، يمارس نوعًا من «التحفظ النفسى»، أشبه بما يفعله المستثمر حين يراقب سوقًا صاعدة لا يثق فى استدامتها. هو يفرح بحذر، ويحتاط من الانخداع. تمامًا كما يفعل حين يسمع بيانات عن تحسّن مؤشرات النمو أو تراجع عجز الموازنة، لكنه لا يرى أثرًا لذلك على معيشته اليومية. فالأرقام، مثل الأهداف، لا تُقاس بعددها فقط، بل بمدى قدرتها على حسم المنافسة. وهنا يبرز السؤال الجوهرى (نذكر به الكابتن محمود الجوهرى رحمه الله): لماذا تتراجع الثقة فى استدامة النجاحات؟ السبب فى رأيى أن «منظومة الأداء الجماعى» فى الاقتصاد، كما فى الرياضة، تعانى من ضعف التكامل المؤسسى. لدينا أحيانًا لاعب موهوب قطاع نشط أو مشروع ناجح أو وزير متميّز – لكن المنظومة لا توظّف تلك الموهبة لصالح الفريق كله. والنتيجة أن لحظة التألق تنتهى إلى انتكاسة أو خيبة رجاء، كما حدث مرارًا فى تجارب برامج الإصلاح الاقتصادى التى لم تُترجم إلى إصلاح مؤسسى وإنتاجى مستدام. • • • شهدت عدة مجتمعات تراجعًا فى الاهتمام الجماعى بالأنشطة العامة أثناء فترات الأزمات الاقتصادية الممتدة. ففى إيطاليا، بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، لوحظ انخفاض حاد فى الحضور الجماهيرى للملاعب، حيث تشير بعض التقارير إلى تراجع بنسبة 30% بين عامى 2008 و2013، وذلك على الرغم من استمرار المنافسات الرياضية المهمة. عزا عدد من التحليلات الإعلامية والإحصاءات الرسمية هذا التراجع إلى تدهور القدرة الشرائية للأسر وارتفاع معدلات البطالة، خاصة بين الشباب. فى مواجهة تلك الظاهرة، بادرت بعض الحكومات المحلية إلى تبنى برامج تهدف إلى تشجيع «الرياضة المجتمعية»، سعيًا منها لإحياء روح المشاركة الاجتماعية وتعزيز الانتماء المحلى. تؤكد هذه التجربة أن الحكومات غالبًا ما تحاول معالجة تدهور المزاج العام، انطلاقًا من إدراكها أن الثقة الاجتماعية بمثابة رأسمال غير مادى لا يقل أهمية عن المقومات الاقتصادية الأخرى. فى أوروبا الشرقية أمثلة أخرى؛ هذه بولندا فى أوائل التسعينيات، حين شرعت فى تطبيق إصلاحات اقتصادية جذرية للتحول إلى اقتصاد السوق. فى تلك الفترة الانتقالية الصعبة، التى ارتفعت فيها البطالة وتدهورت مستويات المعيشة، تراجع الاهتمام الجماهيرى بالمنتخب الوطنى الذى فشل بالتأهل لبطولات كبرى مثل كأس العالم 1994. ومع بدء تحسن الأوضاع الاقتصادية واستقرارها تدريجيًا فى أواخر التسعينيات، عاد الإقبال على المباريات. لاحظ باحثو الاجتماع وجود علاقة ارتباط بين تحسّن المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية وازدياد التفاعل الرياضى، ما عزز فكرة أن متابعة الرياضة يمكن أن تكون مؤشّرًا يعكس الحالة النفسية والاقتصادية للمجتمع، لكن ملاعب الكرة تملك مفعول «أفيون الشعوب» فى أمثلة أخرى، وتظل انعكاسًا لوضع ردىء وحال من الفتور العام. فى عالم الجنوب، يعانى المواطن من تآكل القدرة الشرائية ومن حالة «إجهاد اقتصادى» مزمنة، جعلته أكثر ميلًا للانعزال عن الرموز العامة. لم يعد يعبأ بالاحتفال إلا فى حالات نادرة، حين تمتزج الرمزية بالمنفعة المباشرة. هذا التحوّل فى المزاج العام يعبّر عن أزمة أعمق من كرة القدم: أزمة علاقة بين المواطن والحكومة، بين الجهد والنتيجة، بين الوعد والتحقق. فحين يرى الناس أن الأهداف الكبرى لا تصيب شباك حياتهم اليومية، يفقدون الحافز على التشجيع. • • • لقد تحدّث الاقتصادى الأمريكى الحائز على نوبل، روبرت شيلر، عن مفهوم السرديات الاقتصادية (Economic Narratives)، مؤكدًا أن القصص التى يرويها الناس عن الاقتصاد تؤثّر فى سلوكهم أكثر من الأرقام نفسها. والناس فى مصر اليوم يروون قصة عنوانها «النجاحات لا تصل إلينا». هذه القصة بغضّ النظر عن دقتها تصوغ المزاج العام وتحدّد استعداد الجماهير للإيمان بأى مشروع وطنى أو اقتصادى جديد. لذلك، فإن أول ما يحتاجه الاقتصاد المصرى ليس مجرد إصلاحات هيكلية، بل استعادة السردية الوطنية الجامعة التى تربط بين الجهد الفردى والنجاح الجماعى، وهو الأمر الذى تعكف وزارة التخطيط جاهدة على إنجازه، لكن آلة المؤسسات الأخرى عليها أن تتحرّك فى الاتجاه ذاته. فى حالتنا، ما يحتاجه المصريون ليس مباراة جيدة، بل خطة لعب اقتصادية واضحة. ضالتهم معرفة أين تتجه البلاد، وما إذا كانت الإصلاحات المتلاحقة ستُترجم إلى تحسّن فى القدرة الشرائية، وزيادة فرص العمل، وإنتاج حقيقى، ومؤسسات قادرة على المنافسة. يريدون أن يشعروا بأن الجهود التى تُبذل باسم الوطن لا تذهب إلى حسابات محدودة، بل تصب فى مرمى العدالة الاجتماعية. وعندها فقط سيعود الشغف إلى الميادين، لأن الشعور بالإنصاف هو الوقود الحقيقى لكل حماس جماعى. كاتب ومحلل اقتصادى