فُتِحَ باب الأمل مع توقّف الإبادة الجماعيّة فى غزّة، لكنّ التخوّف ما زال جاثما ممّا ستحمله الأيّام القادمة. توقّف التجويع، إلاّ أنّ منظر ترحال فلسطينيى غزّة بين أنقاض الشمال والجنوب يُلقى بظلّه، بانتظار «سلامٍ» توقّعه دول كبيرة، لا حريّة فيه ولا سيادة ولا حتّى... هويّة فلسطينيّة. لا مهرجانات وأهازيج فى فلسطين مع وقف الحرب رغمَ أهميّة الأمر بعد سنتين من المعاناة، بل... ترقّبٌ وصمود. الأمل فى فلسطين يقابله مزيدٌ من الخوف فى لبنان، خوفٌ من احتلالٍ وقصف يستمرّان، ومن مسيّرات يصمُّ أزيزها آذان أهالى بيروت والجنوب، ومن هاجس حربٍ مدمّرة تتجدّد مع عدٍّ تنازلى لمواجهةٍ مفروضة بين جيش وطنى وجزءٍ من شعبه. والخوف والهاجس مشتركان بين أغلب اللبنانيين مهما كانت درجة انقساماتهم الداخلية. • • • أمّا فى سوريا فيبدو المشهد مختلفا. مهرجانات وأهازيج، الواحدة تلو الأخرى. مهرجانات وأهازيج يرتفع صداها رغم أنّ تشقّق النسيج الاجتماعى يزداد حدّة. كانت البهجة مفهومة ومبرّرة بالطبع فى الأشهر الأولى لسقوط سلطةٍ جائرة أخذت شعبها وجيشها إلى اقتتالٍ داخليّ مدمِّر، وفتحت الباب لحروبٍ إقليميّة ودوليّة على أرض بلادها كى تضحى أرض كلّ الجهاديين. وبهجة مبرّرة أيضا مع قرب انتهاء عقوباتٍ كانت الأقسى عالميّا بعد تلك التى فُرِضَت على غزّة، وكانت قد أنهكت المجتمع السورى… كى يقبل بأى شىء. مهرجاناتٌ وأهازيج باستثماراتٍ قادِمة لم تتبيّن حتّى الآن مصداقيّتها. ومهرجانات وأهازيج بتبرّعات أيضا ليس واضحا أنّها ستتحقّق أو ستذهب إلى غاياتها. ولقد تزامن آخر هذه المهرجانات والأهازيج مع تصويت مجلس الشيوخ الأمريكى على قرارٍ بإلغاء قانون قيصر. دون الحذر والتمهّل من أنّ هذا التصويت ما زال يحتاج إلى تصويتٍ آخر من الكونجرس الأمريكى يتمّ تمريره بطريقةٍ ما، هذا مع شروطٍ ما زالت موضعا للنقاش. أى أنّ الأمر ليس نهائيّا. بالطبع يساهم المتلاعبون بوسائل التواصل الاجتماعى فى تعبئة النفوس وتوجيهها حول هذا الأمر وغيره، ولكنّ المسئوليّة تبقى على المحطّات الإعلاميّة التى من المفترض أن تتوخّى الدقّة بشكلٍ أكبر فى أخبارها والمعلومات التى تُعطيها. وهنا يبرُز التساؤل، بعد عشرة أشهرٍ من سقوط النظام البائد، ألا تستحقّ أوضاع سوريا اليوم شيئا من الجديّة والشفافيّة والمصداقيّة فى التعاطى؟ وذلك على الأقلّ احتراما للجهود التى يبذلها كثيرون، مهما كان موضعهم ودورهم، للنهوض بالبلاد والمجتمع، من أجل التعافى والاستقرار. واحتراما للمعاناة التى ما زالت أغلبيّة المجتمع تعرفها من أجل المعيشة والسكن وكلّ أمور الحياة، بما فيها أن تبقى البلاد وشعبها موحّدين. إشكاليّة المهرجانات والأهازيج أنّها يُمكِن أن تؤدّى إلى الإحباط إذا تبيّن أنّ موضوعها لم يكُن تعبيرا عن واقع. وإشكاليّتها أيضاً أنّها تحرِف الانتباه عن التحديات الفعليّة التى يجب أن تُعالج. أفلا يستحقّ السوريّون جديّةً وشفافيّةً ومصداقيّة حول التحديات؟ ألم تُنضِج آلامهم طوال سنين الصراع قوّةً داخليّة للصبر والجهد كى يتمّ تخطّى الصعوبات؟ ألن يُرافقوا الصدق والشفافيّة بمزيدٍ من الجهد لمواجهة التحديات؟ وما زالت أمام سوريا والسوريين تحديات حقيقيّة. تحدّى إعادة توحيد مؤسسات الدولة السوريّة، بما فيها بناء جيشٍ وطنى حقيقى بعيدٍ عن الاصطفاف السياسى، وكذلك توحيد المؤسسات الأخرى ليس فقط مع شمال شرق سوريا ومع محافظة السويداء بل أيضا مع المؤسسات التى كانت قائمة ضمن «حكومة الإنقاذ» و«الحكومة المؤقتة». ولا شفافيّة حول الجهود التى تُبذَل حول هذا التوحيد. كما أنّ هناك تحدّيات مالية واقتصادية لن يحلّها مجرّد إلغاء قانون قيصر وبعض الاستثمارات الخارجيّة، بل النهوض بالحركة الاقتصادية الداخليّة لتأمين موارد مالية للدولة لتأمين الخدمات العامّة ومكافحة الفقر، على المستويين المركزى والمحلّى. وهذا التحدّى ليس أقلّ صعوبةً من السابق إذ إنّ التحسّن النسبى الأخير قد أتى بفعل التحويلات الاستثنائيّة للمغتربين السوريين التى من العسير أن تبقى بمستوياتها الحالية. ثمّ هناك التحدّى الأكبر مصدره أنّ إسرائيل نتنياهو قد احتلّت أراضى سورية جديدة أبعد من الجولان وصولاً إلى مشارف دمشق، ولا تبدو ذات مصلحة حتّى فى عقد اتفاقيةٍ أمنيّة مع السلطة القائمة، بحيث تكف عن اعتداءاتها متى شاءت وأن تتوقّف عن بثّ الشرذمة بين السوريين. تحدّى لا يُمكِن مواجهته إلاّ بالنهوض بمؤسّسات الدولة والعمل على توحيد المجتمع حول المواطنة المتساوية كى يواجه التفرقة والتشتّت. • • • اللافت أنّ كلّ من يتحدّث بصراحة اليوم بهذه التحديات يواجه تهجّمات كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعى. وكأنّ المطلوب فى هذه المرحلة هو «لغةٌ سياسيةٌ... مصمّمة لجعل الأكاذيب تبدو صادقة والقتل محترَما، وإعطاء مظهر الصلابة للهواء البحت»، كما يقول الكاتب الأمريكى مارك توين. «إضفاء وعودٍ كالسراب يحسبها الظمآن ماء»، كما يقول المثل العربى. أو أن يعمل السياسيّون على مقولة أحمد شوقى: "وَإِذا أُتُوا بِحِلَيِةِ الكَلامِ وَالعِلمُ فى أَكمامِهِم نُثارُ". تأخذ التهجّمات على الصدق والصراحة حدودا غير مسبوقة من التخوين إلى التكفير. وكأنّ كلّ من يصرّ على أن يتمّ توحيد المؤسسات وإصلاحها على أسسٍ قانونيّة وشفّافة هو... عميلٌ وخائن. وكأنّ كلّ من يُسائل عن كيفيّة عقد الصفقات مع أمراء الحرب وعن كيفيّة التعامل مع المال العام والحقّ العام هو... مخرِّب. وكأنّ كلّ من يُنادى بأن الإسلام السنّى فى سوريا ليس طائفةً، بل إنّه كان أساساً دينيّاً وحضاريّاً لأمّة وسطيّة احتضنت خلال قرونٍ طويلة طوائف وأقوام متعدّدة دون التعرّض لخصوصيّاتهم وحريّاتهم، هو... كافر. وكأنّ كلّ من يُنادى بخصوصيّته واحترام حريّته ومواطنته الكاملة دون تمييز هو... منشَقّ. بالطبع لا يتوقّع أحدٌ أنّ الانتقال من الصراع إلى التعافى، ومن التقسيم إلى الوطنيّة، أمرٌ سهلٌ فى مجتمعٍ أنهكته الحرب والعقوبات، وفى ظلّ هيمنة خارجيّة غير مسبوقة على المشرق العربى تريد تغيير... حتّى هويّته. وبالطبع يجب إعطاء الفرصة لمن يبذل الجهود للنهوض بالدولة والمجتمع. ولكن المساءلة الدائمة والمطالبة بالجديّة والشفافيّة والمصداقيّة من قبل المجتمع وفعاليّاته أفضل ضمان كى تتمّ مواجهة التحديات بمسارٍ لا يؤدّى إلى ما هو أسوأ. ليس الشاعر أحمد شوقى من نادى وحده بالمصداقيّة والشفافيّة: «والصدق يُنجى من المِحَنْ ** والكذب يُودى بأهلهِ». بل أصلا القرآن الكريم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ». (سورة التوبة)... وكلّ من حمل حقّا هموم شعبه، انطلاقا من وينستون تشرشل الذى قال: «فى أوقات الأزمات، الصدق هو السياسة الأفضل على الإطلاق»، إلى المفكّر الجزائرى مالك بن نبى: «لا يمكن بناء حضارة على أساسٍ من الكذب والخداع».