عادة ما يرتبط مفهوم «الحروب» بالتصعيد الناتج عن النزاعات السياسية، ولكن أن ترتبط الحروب بالثقافة فإن هذا الأمر يبدو لافتا، لاسيما إذا تم رصد ذلك من خلال كتاب حديث تتبع مظاهر واستراتيجيات هذه الحروب بشكل بحثى موضوعى. هذا الكتاب هو «حروب الثقافة فى مصر» «Egypts culture wars-politics and practice»، الذى أصدره قسم النشر بالجامعة الأمريكية أخيرا، ومؤلفته هى الدكتورة سامية محرز، أستاذة الأدب العربى بقسم الدراسات العربية والإسلامية فى الجامعة الأمريكيةبالقاهرة، التى شغلتها الأزمات الثقافية فى مصر وإيجاد الخيط الخفى الذى يربط بينها ليس فقط على الصعيد الأدبى وإنما أيضا فى المجالات الثقافية الأخرى كالسينما والتليفزيون والفنون التشكيلية. التقت «الشروق» سامية محرز ودار معها الحوار التالى حول هذا الكتاب.. اعتبر الكتاب أن عهد مبارك شهد سيطرة أكبر من الدولة على مجال الثقافة مقارنة بعهد السادات، لماذا؟ لب الأمر أن الدولة فى عهد مبارك كانت تحتاج إلى واجهة تبدو حداثية مستنيرة وكذلك منفتحة وعلمانية، واعتبرت الدولة أن هذه الواجهة يمكن أن يقدمها المجال الثقافى، ومن ثم هيمنت على هذا المجال، وأظن أن أبرز الأمثلة على ذلك فى رأيى على هذا كان جنازة نجيب محفوظ، فكانت هذه أول مرة على مدار الذاكرة أن نجد الدولة تهتم اهتماما خاصا بأن تتصدر هذه الجنازة، وذلك من خلال جنازة عسكرية مغلقة تماما إلا من تمثيل النخبة السياسية، وإذا ما تذكرنا جنازة أم كلثوم وعبد الحليم وعبد الوهاب وطه حسين، لوجدنا أن جميعها كانت جنازات شعبية شارك فيها الشعب والمثقفون معا، أما فى حالة نجيب محفوظ فقد بدا اهتمام الدولة بأن تظهر هذه الصورة على المستوى الدولى، وأن تُصدر هذه العلاقة بين الدولة والثقافة، ومع ذلك فإن هيمنة الدولة لا تعنى بالضرورة قمع الثقافة ولكن ما حدث أن المثقفين أصبحوا موظفين لدى الدولة، فى ضوء احتياجها لهؤلاء المثقفين لكى تتباهى بصورة مستنيرة علمانية. هل تعتبرين أن هذا يعبر عن تناقض واضح فى موقف الدولة؟ بالطبع هناك تناقض، وأعتقد أن الدولة واعية تمام الوعى بهذا التناقض، فهى لديها أكثر من وجه تريد إظهاره منها هذا الوجه المستنير، أضف إلى ذلك المهرجانات والاحتفاليات الثقافية التى تنفق عليها الدولة، والأجهزة الحكومية وسلاسل النشر، وفى النهاية فإن الدولة لا تريد فقط أن تهيمن على المجال الثقافى، وإنما تريد أن تهيمن على كل شىء وإلا فقدت سلطتها، والحقيقة أن الدولة تقمع الثقافة إذا ما تعارضت مع مصالحها السيادية. وماذا عن علاقة هذه العلاقة بالمد الدينى الذى ساد فترة السادات؟ الدولة تدرك أنها لا تحتمى بالثقافة، ولكنها أرادت تصديرها كواجهة العلمانية مرجعها أن الدولة خرجت من مرحلة مد إسلامى فى عهد السادات، وما ارتبط به من تخوف من أن يطغى هذا المد على الساحة مما يؤدى إلى خلخلة سيادة الدولة، وأنا دائما أرى أن هناك أطرافا رئيسية للعبة توضحها الأزمة الأخيرة ل«ألف ليلة وليلة»، الطرف الأول هو الجبهة الإسلامية المتشددة، التى لا تزال تحاول منع نشر الكتاب، ومؤسسات الدولة الثقافية التى تتعامل مع التدخل لهذه الجبهة ليس فقط بوصفه رقابة على كتاب تراثى، وإنما بوصفه تدخلا فى سيادتها، لذا فالدولة تجد نفسها مضطرة لأن تدافع ليس فقط إيمانا منها بأهمية العمل، وإنما حرصا منها على سيادتها، فالسماح للمتشددين على فرض رقابتهم على نص سيفتح الباب أمام تدخلات أوسع وأكبر كما وجدنا فى أزمة نصر حامد أبوزيد، الذى كان كبش فداء للفجوة الموجودة فى كيفية التعامل مع عملية الحسبة، فالدولة تريد أن تحمى سلطتها لأنها دائمة البحث عن السلطة والهيمنة على الجميع. ذكر الكتاب أن احتجاجات المثقفين عادة ما تكون متقطعة وموسمية، فما الذى جعلها تأخذ هذا الطابع؟ أشرت فى البداية إلى أن حركة «أدباء من أجل التغيير» تزامنت مع مجموعة من الحركات الاحتجاجية المناهضة للتوريث عام 2005، وما يقترن بها من مطالب التغيير، ولم أفصل هذه الحركة عن الحركات العمالية والطلابية وغيرها فى الشارع المصرى، علاوة على أسباب أخرى للغليان من ضمنها حادثة حريق بنى سويف التى تسببت فى أن نفقد عددا كبيرا من المسرحيين، وسلسلة من الحوادث الأخرى مثل غرق العبارة، وحوادث قطارات، واليوم نشهد مع ظهور البرادعى تكتلات جديدة، وحاولت فى الكتاب أن أطرح لماذا يحدث هذا الترابط والتضامن ثم لا يستمر، لأن «ما يفض المولد» أن داخل هذه الساحة الثقافية الكبرى هناك تضارب فى مصالح المثقفين ومواقفهم وعلاقتهم ببعض وعلاقتهم بالدولة، وهى أسباب مباشرة فى اندلاع الأزمات، وهذا يعيدنا لفكرة أن جانبا كبيرا من المثقفين موظفون لدى الدولة، فمثلا فى المعركة الدائرة بين علاء الأسوانى وجابر عصفور نجد نقاطا كثيرة للخلاف منها أزمة «ألف ليلة وليلة» وحصول عصفور على جائزة القذافى، وقمع الحريات كما أفاد الأسوانى فى مقاله الذى نشرته «الشروق» أخيرا «الحريات لا تتجزأ»، الذى طرح فيه تساؤلات حول كيفية تصدى المثقفين للدفاع عن ألف ليلة وليلة فى الوقت الذى يصمتون فيه على قمع الحريات العامة وتمديد العمل بقانون الطوارئ، ولب المقال هو كيف ندافع عن الحريات بما فيها حرية النشر من داخل مؤسسات الدولة، وفى اعتقادى أن هذا الصمت دافعه أن مصالح جانب كبير من المثقفين مرتبط بالدولة، وموقف علاء الأسوانى مختلف لأنه يعمل من خارج أجهزة الدولة وهذه الخريطة، وهو ما يجعله يتخذ هذه المواقف. كثيرا ما يكون هناك تشكيك فى نوايا وأغراض المدافعين عن الحريات من خارج أجهزة الدولة؟ وهذا هو معنى الحروب الثقافية، وهو ما يؤدى إلى فشل أى جبهات موحدة أو عمل جماعى للتصدى لقضايا المثقفين لتضارب مصالحهم، نريد إعادة النظر فى علاقة وزارة الثقافة بالمثقفين. تناولتِ الأديب صنع الله إبراهيم كنموذج للمثقف المستقل فى الكتاب، فما الذى ألهمك فى هذا النموذج؟ إنه نموذج متفرد عمل خارج مؤسسات الدولة الثقافية ولم يتلق منها أية عطايا، وأخذ موقفا كالذى يقوم به الآن علاء الأسوانى، فهو وضع نفسه خارج الإطار الذى يمكن أن يكبله فى كثير من المواقف، وأهمية هذا النموذج أنه نموذج ممكن وليس مستحيلا، حتى وإن كان ممكنا بصعوبة، فهو يعطى للجيل الأصغر دروسا فى ماهية وكيفية الاستقلال، وأن الاستقلالية لها ثمن باهظ، لاسيما على المستوى المادى خاصة فى بلاد لا تدعم المثقف، لذا فأن تكون مستقلا يعنى أنك توسع من هامش حريتك إلى حد كبير وفى المقابل تضيق من هامشك الاقتصادى، وهذا فى النهاية قرار، فهل تساوى الحرية هذا التضييق المادى، وقد عاش صنع الله حياته مؤمنا بهذا ومارسه، وعلى مدار الخمس سنوات الأخيرة تغير المناخ الثقافى كثيرا مع الاتجاه للخصخصة، بما فى ذلك توسيع حركة النشر الخاص والمكتبات وحفلات التوقيع والصحافة الخاصة و الفضائيات المستقلة عن الدولة، وهذا كله يفتح آفاقا واسعة أمام جيل الأدباء الجدد، فلم يعودوا معتمدين كما الحال لدى الأجيال السابقة على مؤسسات الدولة فى التوظيف والنشر، وهذا كله أعاد تعريف الاستقلالية لأن المجال الثقافى تغيرت صورته، فلم يعودوا مضطرين لإعادة نموذج صنع الله إبراهيم، لأن جيله لم يكن فيه مجال للعمل تقريبا خارج مؤسسات الدولة. توقفتِ عند أزمة رواية محمد شكرى « الخبز الحافى» التى مررت بها أثناء تدريسك لها بالجامعة الأمريكية، فماذا تعنى لكِ هذه الأزمة؟ هذه الأزمة هى التى وجّهت هذا الكتاب، وحددت كتاباتى على مدار العشر سنوات الأخيرة، وذكرت فى المقدمة أننى لم أكن أعى أننى أقوم برصد أكثر من أزمة ثقافية فى ضوء هذه الأزمة التى تعرضت لها، ووجدت من خلال البحث أن هناك تشابها فى كيفية اشتعال الأزمات، واستراتيجيات التعاطى معها، ولم أتناول هذه الأزمة فى الكتاب بوصفها مشكلة شخصية مررت بها، وإنما تناولتها باعتبارها أزمة تعرى نوعا آخر من المعارك التى تحدث داخل المؤسسة الأكاديمية، بعد أن اشتكى اثنان من أولياء الأمور الذين اعترضوا على تدريس «الخبز الحافى» باعتبارها رواية تخدش الحياء وطالبوا بأن تحذف من المنهج، وكانت معركة طويلة استمرت 6 أشهر حتى وصلت إلى البرلمان، وتحولت إلى معركة داخل الجامعة بعد أن انقسم الأساتذة إلى جانب متضامن مع موقفى وآخر ضدى، والكتاب قام برؤية الأزمة من الخارج ولماذا تم هذا الانقسام عليها. رغم اعتبارك للنموذج الإسلامى المتشدد طرفا فى معظم الأزمات الثقافية فإنك اتخذت من فيلم «بحب السيما» نموذجا سينمائيا للتشدد المسيحى؟ لأن السلطات المسيحية تناولت هذه الأزمة كما تناول الأزهر أزمات أخرى، وذكرت أن نفس الاستراتيجيات التى استخدمتها المؤسسات الدينية الإسلامية ضد أعمال ثقافية كررتها المؤسسات الدينية المسيحية. لماذا تضمنتِ فى الكتاب بحثا فى الأزمات السينمائية والتليفزيونية؟ لأقول إن المنتمين للمجال الأدبى ليسوا منعزلين عن الفنون الأخرى، وأن هناك توازيا فى المشكلات والأزمات الثقافية والفنية المطروحة وأنه لا يمكن تناولها بشكل مجزأ، فلكى أفهم موقفى يجب أن أنظر إلى المجالات الأخرى، ويمكن من خلال الكتاب ملاحظة تكرار تيمات الأزمات، أى أن مشكلة الفنان التشكيلى لا تختلف عن كثيرا عن مشكلة أستاذ الجامعة عن المشتغل بالسينما، وإذا فإن فهم الأزمة يساعدنا على مواجهتها. يستعد قسم النشر بالجامعة الأمريكية لإصدار كتاب جديد لكِ بعنوان «الأطلس الأدبى للقاهرة»، فما هى ماهية هذا الكتاب؟ تبلورت لدى فكرة أن أقوم برسم خريطة أدبية لمدينة القاهرة، لأتتبع من خلالها شكل مدينة القاهرة على الصعيد الجغرافى والثقافى والاجتماعى والسياسى على مدار قرن كامل، وذلك من خلال تقديم مقتطفات من أعمال أدبية كتبها أدباء مصريون وعرب بالعربية والانجليزية والفرنسية، وأعتقد أنه من الممكن أن يعاد تشكيل وعمل محاور جديدة لهذه الخريطة، وما حاولت عمله أننى حاولت أن أجعل مدينة القاهرة تتحدث عن نفسها، فخصصت فصلا عن «بيوت القاهرة» على سبيل المثال بداية من القصور إلى الغرف و المطارح و العشش، وتتبعت أشكال المكان والعلاقات الاجتماعية التى تحتويه من ساكن القصر إلى ساكن العشَة، ودورى كان تجميع النصوص التى ترجمت بالفعل وترجمة بعض النصوص التى لم تترجم بعد، واستعنت بزملاء لى لأتمكن من إعداد هذا الكتاب باللغتين العربية والانجليزية وإصدارهما فى وقت متقارب.