بعد أن وجهت الولاياتالمتحدة ضربات جوية إلى المواقع النووية الإيرانية، خرج رئيس الوزراء الإسرائيلى نتنياهو شاكرا نظيره الأمريكى ترامب ومؤكدا على أنه دائما ما يؤمن بأن استخدام القوة هو الطريق للسلام! لم تكن هذه هى المرة الأولى التى يقول فيها نتنياهو مضمون هذا الكلام منذ أن وصل إلى السلطة لأول مرة منتصف تسعينيات القرن الماضى، فقد سبق أن قال هذا المعنى بصياغات مختلفة، وهو فى ذلك يؤكد على بعدين عامّين لهؤلاء الذين يدرسون العلاقات الدولية ومنطقة الشرق الأوسط: البعد الأول متعلق بالمدرسة الواقعية فى العلاقات الدولية، وهى المدرسة التى تتضمن مجموعة من أرفع الأسماء الأكاديمية والسياسية، عاش أو يعيش معظمها فى الولاياتالمتحدة. تؤمن هذه المدرسة بأن القوانين والأخلاق والتقاليد الدولية ليس لها أهمية كبرى فى العلاقات الدولية، وأن الأصل هو حيازة عناصر القوة عسكريا، واقتصاديا وتكنولوجيا ودعائيا، لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب القومية. كما تؤمن هذه المدرسة بأن التفاوض لا يكون إلا من منطقة نفوذ لضغط الطرف الآخر ومن ثم الحصول على أكبر قدر ممكن من التنازلات منه! أما البعد الثانى فيما قاله نتنياهو، بعد الضربة الأمريكية لإيران، فهو أنه فى هذا التصريح فى الواقع عبر عن طريقة تفكير معظم – إن لم يكن كل - السياسيين الإسرائيليين حتى من قبل إعلان قيام الدولة فى 1948! ففى كل مراحل بناء إسرائيل كمجتمع أولا ثم كدولة لاحقا، كانت القوة – وخصوصا فى شكلها العسكرى والاقتصادى - هى العنصر الأبرز فى سياسة إسرائيل لتحقيق أهدافها! بل بالعودة إلى أول محاولات الصهاينة إنشاء دولة فى فلسطين التاريخية، فقد سافر مؤسس الحركة الصهيونية الحديثة، تيودور هرتزل، إلى إسطنبول مرتين (1896 و1902) لزيارة السلطان عبد الحميد الثانى عارضا على الأخير تسديد ما يقابل 20٪ من ديون الدولة العثمانية المستحقة إلى أوروبا مقابل الحصول على فلسطين، والتى كانت تابعة وقتها للسيادة العثمانية! ورغم عدم نجاح هذا العرض الاقتصادى، فإنه أصبح ممارسة تقليدية فى السياسة الإسرائيلية، وقد نجحت فى ذلك فى الكثير من الأحيان، ولكن لم يمر هذا النجاح دون دفع أثمان كبيرة أيضا! • • • ففى كل اللحظات المحورية فى تاريخ الدولة العبرية كانت القوة بأشكالها المتعددة هى الأداة الأبرز، فإنشاء الدولة فى عام 1948 تم فقط بعد الكثير من الهجمات الإرهابية لعصابات مثل «الهاجانا» و«إرجون» و«شتيرن» وغيرها، ثم لم تكن عمليات التهجير القسرى للفلسطينيين ممكنة دون استخدام القوة أيضا، وهكذا كان انتصارها فى حرب 1967 الطريق نحو زيادة مساحة الدولة، وضم أهم مدينة بالنسبة لها «القدس»، وأكثر الأماكن استراتيجية من الناحية العسكرية، «سيناء وقناة السويس والجولان». تكرر الأمر بعد ذلك كثيرا سواء فى شكل حروب نظامية، أو فى شكل حملات أمنية على الأراضى الفلسطينيةالمحتلة «الضفة الغربية»و«غزة»، أو فى شكل ضربات خارجية مخابراتية استهدفت أعداءها فى الخارج! كذلك فقد وظفت الدولة العبرية عدة أدوات أخرى فى سياساتها الخارجية، فقد تكفلت بالتدريبات الأمنية للحراسات الرئاسية فى بعض الدول الإفريقية، كما قدمت دعما فى تكنولوجيا الزراعة وهندسة المحاصيل الزراعية فى عدد آخر من الدول الإفريقية والآسيوية، كما أنها استخدمت الأدوات الدعائية والإعلامية بشكل ناجح وخصوصا مع الدول الغربية! ورغم ذلك، دفعت إسرائيل أثمانا كبيرة بشرية واقتصادية فى مقابل هذا الاستخدام المفرط للقوة ضد أعدائها، وما حرب 1973 والانتفاضتان الفلسطينيتان الأولى والثانية، ثم هجمات السابع من أكتوبر إلا بعض الأمثلة البارزة على هذه الأثمان الباهظة! هذه الأثمان دفعت تيار اليسار ويسار الوسط الإسرائيلى إلى محاولة إعادة صياغة معادلة القوة العسكرية فى التسعينيات، ولأن البيئة الدولية كانت تسمح وخصوصا مع تأكيد الولاياتالمتحدة الواضح أنها ملتزمة بحل الدولتين، فقد قللت إسرائيل من المكون العسكرى/الأمنى بعض الشىء فى سياستها الخارجية، لكن ومع انهيار عملية أوسلو واندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، عادت معادلة القوة بشدة على المسرح السياسى الإسرائيلى، وخصوصا مع ضعف التيارات اليسارية وسيطرة الأحزاب اليمينية سواء كانت دينية أو علمانية. • • • وجدت إسرائيل الصيغة السياسية المناسبة لها - كما تعتقد - وهى صيغة الائتلاف الحكومى اليمينى الذى يتصدره شخص علمانى يجيد الحديث والتفاهم مع الولاياتالمتحدة أولا ثم مع الغرب ثانيا (نتنياهو)، بينما جوهر هذا الائتلاف شديد التدين والقومية، وهو ما يمثله رجال دين متخفون فى شكل سياسيين! نجحت هذه الصيغة من وجهة النظر الإسرائيلية خلال معظم سنوات القرن الحادى والعشرين، بل ومع وصول ترامب إلى السلطة فى المرة الأولى عام 2016 وقيامه بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وكذلك رعايته للاتفاقيات الإبراهيمية مع الدول العربية، آمنوا تماما بالنجاح الباهر لهذه المعادلة! وتأكد اعتقادهم هذا حينما وصل ترامب إلى السلطة مرة أخرى فى 2024 وتخلى بشكل فعلى عن مبدأ حل الدولتين! لعل واحدة من أهم الرسائل التى أرسلها قائد المدرسة الواقعية فى السياسة الدولية هنرى كسنجر للرئيس السادات كانت أنه لا يستطيع أن يساعده على استعادة سيناء إلا إذا قام الأخير ب «تحريك الأمور على الأرض» وهو ما تحقق بالفعل من خلال حرب أكتوبر والتى كان يعلم السادات – بسبب خبرته ومهارته السياسية وقراءته السليمة لتوازنات القوى على الأرض إقليميا ودوليا - أن جل هدفها لا هو تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، ولا هو الوصول إلى تل أبيب كما نادى أو اعتقد البعض، بل إن الهدف منها هو أن تتغير معادلة القوة على الأرض فيكون الطريق للتفاوض مع إسرائيل لاستعادة سيناء كاملة أسهل، وهو ما تحقق بالفعل بعد ذلك! • • • لكن هناك معضلة أمام معادلة «القوة كطريق للسلام»، وهى ليست معضلة أخلاقية كما قد يعتقد البعض، ولكنها معضلة متعلقة بمدى استدامة هذا السلام! فغالبا السلام الذى لا يأتى سوى بعد استخدام القوى المفرطة، أو الذى يتم فرضه من أعلى إلى أسفل دون وجود قناعة حقيقية بأهمية هذا السلام، والأهم بما إذا كان هذا السلام عادلا أم لا، فلا فرصة لاستدامته أبدا! على سبيل المثال، فإن كثرة الحروب بين الغريمتين التاريخيتين ألمانياوفرنسا لم تنته مع الهزيمة المدوية للأولى واضطرارها لقبول الشروط المجحفة لاتفاقية فرساى 1919 التى سوّت – أو هكذا اعتقد المنتصرون - نتائج الحرب العالمية الأولى. بل على العكس، كانت هذه الشروط المجحفة أحد أهم أسباب شهرة النازية والتى بدورها قادت إلى الحرب العالمية الثانية التى شهدت تدميرا أكبر من الحرب الأولى! وقتها تعلم المنتصرون الدرس، وهو أن عمليات الاستخدام المفرط للقوة ومحاولة إخضاع الطرف الأضعف لحد الإهانة ليست السبيل للسلام الدائم، وإنما كان السبيل الوحيد هو التصالح مع الدول المهزومة (اليابان - ألمانيا - إيطاليا) بل ومحاولة تقديم مساعدات اقتصادية وسياسية لتحفيز المهزوم على الإصلاح السياسى والنهوض الاقتصادى! رغم كل هذا العداء التاريخى بين فرنساوألمانيا، يستطيع اليوم المواطن الألمانى العبور إلى فرنسا، دون الحاجة للحصول على «فيزا» بل وقد يستطيع العمل والعيش والتكسب فيها كما يفعل فى بلده بالضبط والعكس صحيح! كان هذا ممكنا فقط من خلال الروابط الاقتصادية والسياسية (الاتحاد الأوروبى)، والأمنية (حلف الناتو) التى أشعرت الألمان بالكرامة والعدل وجعلتهم عازمين بالفعل على تجاوز الماضى المرير بعد هزيمتهم مرتين متتاليتين فى حربين عالميتين، والنظر إلى الأمام والعيش فى سلام ليس فقط مع فرنسا، ولكن مع كل دول الجوار الألمانى! وهكذا، لن تستطيع إسرائيل الحصول على سلام دائم، لطالما أصرت على استخدام منطق القوة المفرطة فحسب! نعم تستطيع أن تحقق الانتصارات وأن توجه الضربات الموجعة إلى جوارها الإقليمى، ولكن مهما كانت فروق القوة لصالحها، فلن يُمنح شعبها الأمان والسلام الدائم، دون أن يشعر هذا الجوار بالعدل الدائم! أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر