نشرت صحيفة عكاظ مقالًا للكاتبة ليلى الجابر عن التقاعد، حيث يمثل إحدى المحطات الفاصلة فى حياة الإنسان، إذ لا يقتصر أثره على توقف المهام الوظيفية، بل يتجاوز ذلك ليشكّل تحولًا عميقًا فى البنية النفسية والاجتماعية للفرد. فعند مغادرة بيئة العمل المنتظمة بما تحمله من مسئوليات وضغوط يومية، يجد الإنسان نفسه أمام فضاء زمنى واسع واختبار حقيقى لقدراته على التكيف وإعادة تشكيل هويته بعيدًا عن الدور المهنى. وتختلف استجابات الأفراد لهذه المرحلة تبعًا لتكوينهم النفسى وتجاربهم الحياتية، ما يجعل من التقاعد لحظة كاشفة، تحمل فى طياتها إمّا فرصًا للنمو والإنجاز، أو تهديدات تؤدى إلى الانكفاء والاضطراب.. نعرض من المقال ما يلى: التقاعد نقطة تحول حاسمة فى حياة الإنسان، حيث ينتقل من إطار العمل المنظم بقيوده والروتين بمسئولياته إلى فضاء مفتوح يتيح له إعادة اكتشاف ذاته أو البحث عن ما يُشغل مستقبله. هذه المرحلة ليست مجرد تغيير فى الروتين اليومى، بل هى اختبار نفسى عميق وتحدٍ كبير.. يكشف من خلالها عن طباع الفرد وقدرته على التكيف مع التغيير الناتجة عن التقاعد؛ فالتقاعد بما يحمله من حرية وفراغ زمنى يضع الإنسان وجهًا لوجه مع نفسه، حيث تبرز مكنوناته النفسية ومدى توازنه الداخلى. وفى هذه المرحلة تتجلى طباعه الحقيقية وتظهر قيمته التى بناها على مر السنين.. فمنهم من يجد فى التقاعد ملاذًا للراحة النفسية فيتجه إلى الذكر والعبادة؛ حيث تمنح روحه السكينة ويعزز شعوره بالهدف والرضا الداخلى. هؤلاء غالبًا ما يمتلكون توازنًا نفسيًا يسمح لهم بشغل الفراغ الذى خلّفه العمل بأنشطة تعكس قيمهم العميقة. وهناك من يستثمر هذه المرحلة فى إطلاق طاقاته الإبداعية والمعرفية فيبدأ مشروعًا خاصًا إما اقتصاديًا أو امتدادًا لتخصصه قبل التقاعد.. وهناك من ينغمس فى هوايات ما دام أجّلها لانشغاله بمرحلة العمل ولعدم وجود الوقت الكافى لممارستها.. هذه الفئة تمتلك مرونة نفسية تمكنها من تحويل التقاعد إلى فرصة للنمو الذاتى، حيث يجدون فى الحرية المستقبلية متنفسًا لتحقيق الذات واستعادة شغفهم الداخلى ومشاركة المجتمع بما يتوافق مع استثماراتهم الشخصية السابقة، فيكونون مرجعًا ذا قيمة كبيرة وعالية للجميع. لكن وللأسف.. هناك فئة أخرى يكشف التقاعد عن هشاشة نفسية واضحة لديهم كانت تختبئ خلف انشغالهم السابق.. هذه الفئة لم يتمكنوا من بناء هوية داخلية متماسكة أو استقرار اجتماعى خلال سنوات عمرهم فيجدون أنفسهم عاجزين عن التكيف مع غياب الهيكلية التنظيمية التى كان يوفرها العمل لهم، فالتقاعد بالنسبة لهم ليس فرصة للتحرر بل أزمة وجودية تُفاقم شعورهم بالفراغ والقلق والخوف.. فبدلًا من استثمار هذه المرحلة بشكل إيجابى ينحدرون إلى سلوكيات عدوانية أو مدمرة كالإساءة للآخرين بالقول أو الفعل أو التعدى على حقوق الغير إثر تراكم السلبيات فى عقولهم. هذه السلوكيات قد تنبع من شعور داخلى بالإحباط أو فقدان الهوية التى كانت مرتبطة بالعمل أو حتى تربية أسرية غير متزنة، ما يدفعهم إلى البحث عن تعويض زائف من خلال إيذاء الآخرين أو فرض السيطرة عليهم. هذه السلوكيات تثبت مدى قدرة الفرد على تحقيق التوازن الذاتى والتكيف مع التغيرات الحياتية، فالأفراد الذين يمتلكون وعيًا ذاتيًا مرتفعًا وقدرة على إدارة مشاعرهم غالبًا ما يرون التقاعد مرحلة للتجديد والنمو. أما أولئك الذين يعانون من ضعف فى الهوية الذاتية أو نقص فى مهارات التكيف، فقد يواجهون التقاعد كتهديد يُحفّز دفاعاتهم النفسية السلبية مثل العدوانية أو الانتقام. هذا الاختلاف يكشف عن أهمية الإعداد النفسى للتقاعد من خلال تعزيز الوعى الذاتى وتطوير مهارات التكيف وتنمية المهارات الاجتماعية والعلاقات الشخصية مع بناء هوية لا تعتمد فقط على العمل أو المنصب. وأخيرًا.. التقاعد يُعدّ من التحولات الحياتية الكبرى التى تُثير استجابات نفسية متنوعة بناءً على شخصية الفرد وخبراته السابقة منذ تربيته حتى دراسته نهاية بعمله. ووفقًا لنظريات علم النفس مثل نظرية إريك إريكسون للتطور النفسى.. فإن مرحلة التقاعد تقع ضمن مرحلة (النضج)، حيث يواجه الفرد تحدى تحقيق (الاكتمال الذاتي) مقابل (اليأس). وهنا تبرز أهمية التدخلات النفسية مثل الإرشاد النفسى أو برامج الإعداد للتقاعد من خلال جمعيات أو مؤسسات تابعة لمؤسساتهم الوظيفية، التى يمكن أن تساعد الأفراد على التكيف مع هذه المرحلة وتجنب الانزلاق إلى سلوكيات مدمرة.