أكثر الناس إدراكا لنهاية ما يسمى النظام العالمى هم مخططوه. وفى طريقة أشبه بصاحب الكرة الذى يدعو المحيطين به للعب معه، على أرض خططها على طريقته وأتى بحكم لقَّنه قواعد اللعبة التى صممها ليضمن الفوز، لتبدأ المباريات وتنتهى كل مرة بنتائج تعلن فوزه مع فريقه وفقا للقواعد. ثم أتقنت الفرق الأخرى قواعد اللعبة وبدأت بالفوز فى بعض المباريات، لم يعر صاحب الكرة الأمر اهتمامًا فى البداية ما دام يستأثر بالفوز. فلما اشتدت المنافسة ولم يعد الفوز حليفه، استشاط غضبًا وحمل كرته ومضى بها معلنًا أن النتائج على النحو المشهود لم تكن مسعاه، فطرد الحكم وشرع فى طمس معالم الملعب ومحو قواعد اللعبة القديمة، ليفكر فى لعبة جديدة يكسب نتائجها. بطبيعة الحال، عالم الواقع أكثر تعقيدًا من عالم صاحب الكرة، فالمتنافسون سعيًا للتقدم فى لعبة الأمم لن ينتظروا نظامًا جديدًا يُنعم به عليهم من احترف الفوز فى النظام القديم، بل سيسعون إلى ترتيب البدائل التى تيسر حركة التجارة والاستثمار وتنظم سريانها وتسوى منازعاتها. وفى هذه الأثناء سيسعون إلى احتواء اللاعب القديم؛ فقد صار لديهم ما يخسرونه إذا ما افتعل المعارك ليطيل أمد الهيمنة بكل ما يتاح له من سبل استخدام القوة بأنواعها ناعمة كانت أم خشنة، أو مزج بينهما بما تيسر له من ذكاء مفترض. وما دمنا بصدد القوة فى العلاقات الدولية فلنرجع إلى آخر ما كتبه جوزيف ناى، الأستاذ بجامعة هارفارد، ونُشر قبل وفاته بأيام فى عدد شهر أبريل الماضى من مجلة «أفريكان إيكونومى» المعنية باقتصاد القارة السمراء، وكان قد اختصها بمقال عن مستقبل النظام العالمى، أشار فيه إلى أنه بعد القرن الماضى الذى شهد سيطرة أمريكية بعد نهاية الحرب الباردة فى عام 1991، بما أسفر عن تدعيم مؤسسات واتفاقيات دولية قائمة وإنشاء أخرى تؤكد نهج الاعتماد على القواعد الحاكمة فى إدارة العلاقات الدولية. لعب فيها دور حكام اللعبة الدولية مؤسستا بريتون وودز المتمثلتان فى صندوق النقد الدولى والبنك الدولى، ومنظمة التجارة العالمية والاتفاقية الإطارية لتغيرات المناخ وغيرها. ولكن مع اطراد الصعود الآسيوى، وقبل قدوم الرئيس الأمريكى دونالد ترامب لسدة الحكم بفترة بدأ تنبؤ المحللين بأن عصر الهيمنة الأمريكية يوشك أن يرى نهايته، مع توزيع جديد للقوة. جاءت المكاسب الآسيوية المتنامية منذ مطلع هذا القرن على حساب أوروبا، فما زالت الولاياتالمتحدة تحتفظ بنصيبها الذى تمتعت به لعقود وهو ربع الاقتصاد العالمى. ورغم تقدم الصين فاقتصادها لم يتفوق على المنافس الأمريكى بعد. وعلى الرغم من تطورها العسكرى الوثاب فإنها تأتى بعد الولاياتالمتحدة وزنًا فى آلة الحرب، ولا تتمتع بتحالفاتها، أو تقدمها التكنولوجى، حتى الآن. النقطة المحورية هى تلك التى اختتم بها جوزيف ناى مقاله، والتى تمزج بين معرفته البحثية وخبرته العملية، مساعدًا سابقًا لوزير الدفاع الأمريكى، وخلاصتها أنه «إذا ما تآكل النظام الدولى الراهن فإن السياسات المحلية الأمريكية تتحمل مسئولية هذا التآكل بقدر مسئولية الصعود الصينى عنه». وقد ترك السؤال مفتوحًا عما إذا كان ما يشهده العالم منذ تولى الإدارة الثانية للرئيس ترامب من هجوم متوالٍ على التحالفات والمؤسسات الدولية التى بنيت القرن الماضى، بداية طويلة لانحدار أمريكى، أم هى مجرد مرحلة دورة ستشهد صعودًا بعدما تصل للدرك الأسفل من القاع. وقد دعا ناى إلى الانتظار للتعرف إلى الحقيقة بين الأمرين مع بداية ولاية رئيس أمريكى جديد فى 2029. لم يمنح القدر الفرصة لناى للتعرف إلى الرئاسة الجديدة لما بعد ترامب وتوجهاتها، ولا أحسب أن سائر العالم معلقة مصائره انتظارًا لما سيقرره الناخب الأمريكى ومزاجه، ويجب ألا تكون. سنشهد مزيدًا من محاولات الكر والفر فى معركة التجارة الدولية لتخفيض التعريفة الجمركية المفروضة أحاديًا فى الثانى من أبريل الماضى الذى سماه ترامب «يوم التحرير» للتعريفة الجمركية الذى أعقبه التاسع من أبريل وهو «يوم تجميد» هذه التعريفة لتسعين يومًا، بعدما انتفضت الأسواق المالية متقلبة بعد تصعيد الحرب التجارية. وقد وجدنا اتفاقيات تجارية للتوصل لترتيب أفضل مع الولاياتالمتحدة، أو قُل أقل سوءًا مما صار فى يوم التحرير، على النحو الذى تم بين المملكة المتحدةوالولاياتالمتحدة، وما يسعى إليه الاتحاد الأوروبى أيضًا. وربما استجابت بلدان عالم الجنوب، ومنها البلدان العربية والإفريقية، لدعاوى الناصحين لها بزيادة القيمة المضافة بتصنيع ما تملكه من ثروات طبيعية وتعدينية على أرضها بدلاً من الاسترسال فى النمط المتدنى لعلاقاتها التجارية بتصديرها خاماتٍ وسلعا أولية، وذلك بعقد منافسة مفتوحة بين الشركات الراغبة فى التصنيع بخاصة مع الرغبة الجامحة للولايات المتحدة فى الحصول على المواد الخام الحرجة اللازمة للصناعات التكنولوجية المتقدمة، بخاصة مع تقدم الصين فى الولوج لمصادرها بخاصة فى إفريقيا. ويقترح الاقتصاديان فيرا سونج وى وويتنى شنيدمان أن الولاياتالمتحدة فى اتفاقياتها التجارية الجديدة مع إفريقيا عليها أن تعلى فرص زيادة التعاون فى التصنيع بالقارة لكى تحظى بفرص تفوق الصين التى سبقتها بالفعل إلى القارة. والأهم مما سبق هو كيفية قيام دول عالم الجنوب، وقد أدركت زوال النظام القديم، بإدارة عملية التنمية والتقدم بارتكازها على البشر، والتنويع الاقتصادى، والتحول الرقمى، وتيسير الاستثمار، وثورة فى البيانات. وفى هذه المرتكزات والممكنات الخمس ما نفصله فى مقال قادم. نقلًا عن جريدة الشرق الأوسط