تعلق الإنسان منذ فجر التاريخ بفكرة «البيت»، يسعى إليه للاحتماء من الخطر، ويجد فيه الأمان والسَكن، وتعنى كلمة «بيت» فى اللغة العربية، المأوى والمكان الذى نلجأ إليه، ومع تطور الحياة وتعقدها، لم يعد البيت مجرد جدران وسقف، بل تحول إلى رمزٍ للحماية، والانتماء، والطمأنينة. ترك هذا المعنى العميق أثرًا واضحًا فى الوجدان المصرى، فحين أطلقت الدولة على مراكزها الثقافية اسم «بيت الثقافة»، لم يكن ذلك اختيارًا لغويًا عابرًا، بل إقرار بأن الثقافة تستحق أن تُبنى من أجلها بيوت، لا لتُقيَّد بين جدران، بل لتكون ملاذًا للناس ومركزًا ينطلق منه الفكر والإبداع، لكن ماذا يحدث حين تُغلق هذه البيوت؟ صدمة ثقافية
جاء قرار وزارة الثقافة المصرية بغلق أكثر من مائة بيت ومكتبة ثقافية، وإعادة توزيع العاملين بها فى المواقع الثقافية الأخرى صادمًا لمجتمع المثقفين، وبعض البرلمانيين الذين حاولوا التصدى لهذا القرار. كان وزير الثقافة، أحمد هنو، كلف خالد اللبان، قبل ثلاثة أشهر بتولى مسئولية الهيئة العامة لقصور الثقافة، وتحدث اللبان فى لقاءات صحفية عقب تصعيد أزمة إغلاق بيوت الثقافة عن مهمته فى تطوير الهيئة، وهيكلتها. يبدو أن مصطلح «التطوير» ينتهى بنا دائمًا إلى أزمات غير متوقعة وقرارات مفاجئة ندفع ثمنها تحت دعوى التطوير. يدافع رئيس الهيئة عن السياسات الجديدة، بحجة ضيق المساحات فى بعض المواقع أو عدم عملها بالصورة المطلوبة، كما يلفت إلى أن بعض هذه البيوت عبارة عن وحدات مؤجرة وبموجب القانون الصادر عام 2022 وجب إخلاؤها، لكن كعادة المسئولين الحكوميين يقدمون لنا نصف المعلومة، يوضح اللبان فى حواراته الصحفية أنه ما تزال الهيئة تحصر عدد الوحدات المؤجرة. بدائل بلا خطط
تحاول وزارة الثقافة تقديم خطة بديلة، فيتحدث اللبان عن استراتيجية مدتها خمس سنوات، لم تعتمد بعد من رئيس الوزراء، وتتضمن تفعيل القوافل الثقافية والمكتبات المتنقلة، بالإضافة إلى إعادة بناء الهوية المؤسسية للهيئة. تروج الوزارة لاستراتيجية جديدة تعتمد على التكنولوجيا والتطور الرقمى، بينما تغلق بيوتًا قائمة بالفعل دون تقديم جداول زمنية أو توضيح خطط تنفيذية، تطرح مشروعات ثقافية متنقلة قد تمثل أداة فعالة للوصول إلى القرى والأحياء النائية، حيث تأخذ الثقافة إلى الناس بدلًا من انتظارهم للقدوم إلى المراكز الثقافية. تعد المشروعات المتنقلة حلًا عمليًا لتعويض نقص البنى التحتية الثقافية، وتوسيع دائرة الوصول لمناطق يصعب فيها إنشاء بيوت ثقافة ثابتة، لكنها تبقى أشبه ب«شعاع متنقل» مؤقت، ينير طريقًا لكنه لا يخلق منارة مستقرة تجمع الناس حولها بشكل دائم. فى المقابل، تلعب بيوت الثقافة المستقرة دورًا لا غنى عنه فى المشهد الثقافى، فهى نقطة التقاء دائمة وعلى الرغم من قلة الإمكانيات فى كثير منها وضيق المساحات، تظل سبيلًا لمواجهة الأفكار الظلامية والمجموعات المتطرفة التى تنتشر بطرق غير تقليدية. حراك برلمانى محدود
لم يكن البرلمان بعيدًا عن الأزمة، فتفاعل عدد محدود من النواب بتقديم بعض طلبات الإحاطة التى ترفض إغلاق بيوت الثقافة، وعكس هذا الحراك مدى الحساسية التى تحظى بها قضية الثقافة فى مصر، وضرورة مراجعة القرارات لتتناسب مع الاحتياجات الثقافية للمجتمع. عبرت النائبة مها عبد الناصر عن قلقها من تأثير هذه القرارات على المشهد الثقافى، مطالبة بوضع استراتيجية شاملة لتحديث وتوسيع هذه المؤسسات، كما قدمت النائبة فاطمة سليم طلب إحاطة تطالب فيه الوزارة بتوضيح خططها لاكتشاف وتنمية المواهب بعد إغلاق بعض المواقع، فيما أعربت النائبة ضحى عاصى عن رفضها القاطع لقرار الإغلاق، مؤكدة أن الثقافة حق دستورى لا يجب المساس به، كذلك، حذرت النائبة ندى ألفى ثابت من العواقب السلبية لهذه القرارات، مشددة على أهمية دور هذه المراكز فى مواجهة الفكر المتطرف. وانعكست المناقشات الرافضة لهذه السياسات على اجتماعات لجنة الخطة والموازنة، ولجنة الثقافة والإعلام بمجلس النواب وطالب النواب بوضع خطة واضحة لتطويرها بدلا من إغلاقها. على الرغم من هذه التحركات البرلمانية والتفاعلات الفردية، إلا أن الأداء العام للبرلمان فى مواجهة أزمة إغلاق بيوت وقصور الثقافة لم يكن كافيًا أو حاسمًا، فعدد طلبات الإحاطة المقدمة لا يعكس حجم الخطورة التى تمثلها هذه القضية، ولا يغطى الحاجة الحقيقية لحماية الهوية المصرية والإبقاء على بيوت الثقافة فى الحفاظ على القوة الناعمة لمصر والتصدى للأفكار الظلامية المتطرفة. يجب أن يكون الحراك أوسع فى مجلس النواب من خلال جميع الأحزاب السياسية، فبيوت الثقافة ليست مجرد مؤسسات، بل هى حائط صدّ أمام انتشار الأفكار المتطرفة، وجزء لا يتجزأ من الهوية الوطنية المصرية. الثقافة والرفاهية الرقمية
من الضرورى أن تتكاتف جميع القوى السياسية لتوجيه نوابها للعمل بفاعلية أكبر، وزيادة الضغوط على الجهات المعنية لإعادة النظر فى قرارات الإغلاق، ووضع خطط واضحة تدعم تطور مؤسسات الثقافة بدلًا من تهميشها أو إضعافها، فهذه مسئولية وطنية تتطلب موقفًا جماعيًا قويًا يضمن استمرار دور الثقافة كرافد أساسى للحياة المصرية. قد يكون صحيحا أن الكثير من بيوت الثقافة لا تعمل بشكل فعلى، وربما الأداء الوظيفى فى أدنى مستوياته، لكن الوزارة ذاتها مقصرة فى عدم ضبط أداء الموظفين، فالحل فى تفعيل دورهم وليس فى الإغلاق. وما يتردد عن المساحات الصغيرة ليست إلا حجة العاجز عن استخدام إمكانياته وتطويرها، فهذه المساحات الأنسب لتعلم فنون الرسم والموسيقى والكتابة وتذوق الشعر، فالثقافة ليست عروضًا كرنفالية فقط، بل تبدأ ببناء الإنسان وتكوينه فى هذه المساحات الضيقة. وتبدو خطط الحكومة الرقمية وبدائلها الثقافية التكنولوجية، منفصلة عن الواقع الفعلى، فارتفاع أسعار باقات الإنترنت يجعل الوصول إلى المحتوى الرقمى رفاهية لا يقدر عليها كثير من المواطنين، فى القرى أو الأحياء الفقيرة والمتوسطة وهم على الأغلب الفئة المستهدفة من الأنشطة الثقافية. الحديث عن «قصر ثقافة افتراضى» أو «مكتبات إلكترونية» لا يجوز أن يكون بديلًا عن حضور ثقافى حى ومباشر، بل يمكن أن تكون عنصرًا تكميليًا فقط، لا كبديل يُستخدم لتبرير إغلاق مقرات فعلية كانت تمثل فى يوم من الأيام نافذة النور الوحيدة فى مجتمعات بأكملها.