الحرب التجارية الشاملة التى أطلق الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عنانها ترخى بظلالها القاتمة على الاقتصاد العالمى، وتضع على المحك مصير النظام الاقتصادى العالمى الذى نشأ عقب الحرب العالمية الثانية، وتطور فى ظل هيمنة غربية، أمريكية فى الدرجة الأولى، على مختلف مفاصله، هذه الحرب التجارية وتداعياتها المحتملة تجعل من الملح محاولة استشراف مستقبل هذا النظام فى ظل التحولات العميقة التى يشهدها العالم فى الآونة الأخيرة. ففيما تشتد وتيرة العقوبات التى تتحول أكثر فأكثر إلى أداة تكاد تكون رئيسة فى الصراع المتصاعد على الساحتين الجيوسياسية والاقتصادية، والذى يأخذ أشكالا عدوانية فى العديد من الأحيان، وفى ظل تراجع مكانة الاقتصاد الغربى، يفقد الغرب بالتدريج احتكاره لمحركات النمو الاقتصادى العالمى، وأخذت تظهر (وإن بوتائر لا تزال بطيئة حتى الآن) بوادر بدائل للنظام المصرفى العالمى المهيمن عليه أمريكيا، ولتكنولوجيا المدفوعات الدولية، وللدولار بوصفه عملة الاحتياط العالمية الأساسية، ويتعزز فى هذا السياق دور البلدان سريعة النمو من خارج نادى المنظومة الغربية، والتى بدأت تعمل فى إطار مجموعة «البريكس» على إنشاء قاعدتها البديلة للنمو والتوسع الاقتصادى على أسس تكنولوجية حديثة. * • • تتمثل أبرز أدوات الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمى فى التالى: الدولار والمنظومة المالية العالمية: تفيد معطيات صندوق النقد الدولى بأن حصة الدولار فى العمليات التجارية الدولية تزيد اليوم على 80%، وهو يمثل 60% من احتياطيات العملات فى العالم، وتضطلع بنوك المراسلة الأمريكية بالدور الرئيس فى المدفوعات الدولية. الاستثمارات المالية: تمثل المؤسسات المالية العالمية (أبرزها صندوق النقد الدولى والبنك الدولى) الخاضعة للهيمنة الأمريكية مصدرا أساسيا للقروض والاستثمارات طويلة الأمد التى تمنح للعديد من البلدان، إذ تعلن هذه المؤسسات أنها تقدم الموارد الضرورية الهادفة إلى تنفيذ المشروعات الاستراتيجية طويلة الأمد، وإجراء الإصلاحات البنيوية وتحقيق الاستقرار الاقتصادى فى أوقات الأزمات فى البلدان المعنية. الإنفاق على التكنولوجيا فائقة الدقة وعلى الأبحاث والابتكار: من بين الشركات العالمية الكبرى من حيث مستوى الرسملة، العاملة فى ميادين التكنولوجيا فائقة الدقة، والبالغ عددها 30 شركة، ثمة 25 شركة أمريكية، وتبلغ حصة الولاياتالمتحدة ربع الإنفاق العالمى على الأبحاث والابتكار (3،6% من إجمالى الناتج المحلى الأمريكى سنويا). التجارة الدولية وخطوط الإمداد: تسهم الولاياتالمتحدة ب11% من ميزانية منظمة التجارة العالمية، وتستفيد فى المقابل من «تسهيلات غير معلنة» تمنحها المنظمة (86% من دعاوى التحكيم التى كانت الولاياتالمتحدة طرفا فيها، والتى نظرت فيها المنظمة، جاءت لمصلحة واشنطن). أصبحت الولاياتالمتحدة فى نهاية القرن العشرين الدولة العظمى المهيمنة من دون منافس، بيد أن سنن الطبيعة والتاريخ والتطور الاقتصادى والاجتماعى تؤكد أن ما من هيمنة تبقى قائمة إلى الأبد، فالأكلاف تتعاظم، وتتبلد النخب السياسية الحاكمة فى الدولة المهيمنة، وتتبدل الظروف الخارجية، وتبرز قوى ناشئة تسعى إلى كسر حلقة الهيمنة، فيأخذ البناء المتشكل على مدى عقود بالخلخلة والتآكل، تحت وطأة المتغيرات الحتمية على المستويين الداخلى والدولى. فى هذا السياق، سياق تخلخل النظام الاقتصادى العالمى القائم، يمكن وضع القرارات التى اتخذها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى مطلع شهر أبريل الفائت، والتى قضت بفرض رسوم جمركية عالية على غالبية دول العالم، بما فيها تلك الحليفة للولايات المتحدة، فكان الأمر بمثابة إطلاق حرب تجارية عالمية لم يسبق لها مثيل، لقد كانت تلك الإجراءات بمثابة المسمار الأخير فى نعش البناء الاقتصادى العالمى الذى تحدثنا عنه، وستكون لها فى حال استمرارها والإصرار عليها من قبل الإدارة الأمريكية، تداعيات اقتصادية وجيوساسية، بعيدة المدى، وستكون العولمة الاقتصادية التى كانت الولاياتالمتحدة نفسها عرابتها، أولى ضحاياها. * • • ثمة العديد من المؤشرات التى تبدو كإرهاصات أو مقدمات تمهد الطريق نحو التعددية القطبية على الصعيد الاقتصادى، أبرزها وأكثرها فاعلية ظهور وتعزز مجموعة «البريكس» المؤلفة من بلدان ذات اقتصادات سريعة التطور تملك مقدرات وثروات طائلة، لقد ترافق السير نحو التعددية القطبية مع النهوض الاقتصادى الباهر للصين، التى تبعتها على الخطى نفسها الهند والبرازيل، ومن ثم روسيا التى نجحتْ إلى حد كبير فى تجاوز تداعيات العقوبات الاقتصادية الهائلة التى فرضت عليها، وفى تحقيق «السيادة الاقتصادية» بنسبة كبيرة، فالصين تتصدر اليوم دول العالم، من حيث حجْم إجمالى الناتج المحلى المحتسب على أساس مماثلات القدرة الشرائية (34,6 تريليون دولار) تليها الولاياتالمتحدة (27,4 تريليون دولار). وعلى حد قول أحد الباحثين: «خلف رأس المال، يأتى العلم، أى السياسة»، أى أن تعزز موقع المجموعة الاقتصادية يليه حتما توسع دورها السياسى، هذا ما حدث للاتحاد الأوروبى، وما سيحدث بالطبع بالنسبة إلى مجموعة البريكس، وما يشير إلى ذلك أن دول المجموعة لا تكتفى اليوم بتناول مسائل التعاون الاقتصادى فى ما بينها ومعالجته، بل وتبحث فى قضايا ذات طابع سياسى، كالأمن الإقليمى والعلاقات السياسية بين الدول والتكتلات الإقليمية. إن ما يميز «البريكس» أنها نشأت، بحسب قول رئيس وزراء الهند، «ليس كحلف معاد للغرب، بل كملتقى غير غربى». أى إنها بطبيعتها تكوين ليس ذا طابع عدائى لأحد، بل هى عبارة عن تجمع تعاونى بين دول مختلفة، لا بل متباينة من حيث بناها وأنظمتها السياسية وخصائصها الدينية والحضارية. إن ما يجمعها هو هدف الوصول إلى عالم متعدد الأقطاب يسوده التفاهم واحترام خصوصيات كل بلد. كان للعقوبات الاقتصادية التى فرضتها الدول الغربية على بلدان عديدة دور محفز فى الدفع نحو تشكل نظام عالمى جديد متعدد القطبية، فقد حفزت هذه العقوبات البلدان التى طالتها للعمل على تطوير بناها الاقتصادية الذاتية، وكذلك لخلق الشروط الضرورية للتحرر من الهيمنة الاقتصادية والمالية الغربية، ودافع للمضى مجتمعة فى إنشاء تجمع اقتصادى كخطوة عملية نحو إقامة تعددية اقتصادية تقوم على ابتكار سبل بديلة للمبادلات والمدفوعات الدولية، وبنى مصرفية ونقدية جديدة قادرة على تقديم الخدمات المالية والاستثمارية والإنمائية لأطراف هذا التجمع الجديد. * • • يفترض ظهور مراكز نمو جديدة مستقلة عن النفوذ الغربى استحداث مؤسسات دولية جديدة، وقد بدأت مجموعة «البريكس» رسم معالم الواقع الاقتصادى الجديدة فى العالم. وعلى الرغم من أن هذه العملية لا تزال فى بدايتها، ولم تأخذ أشكالها النهائية بعد، يمكن رسم هذه المعالم على النحو التالى: التعاملات بالعملات الوطنية: أعلن الرئيس الروسى فى اللقاء الأخير لمجموعة «البريكس» الذى عقد فى قازان أن 95% من مجمل التجارة الخارجية لروسيا تتم بالعملات الوطنية، أما على صعيد بلدان «البريكس» ككل فتبلغ هذه النسبة 65%، وبدأتْ تتردد فى أوساط المجموعة فكرة إنشاء عملة موحدة، وعلى الرغم من أن هذه الفكرة لا تزال ضبابية وتبقى حتى الآن فى إطار «التفكير بصوت عال» حول سبل كسر هيمنة الدولار الأمريكى، إلا أن مجرد طرحها والمناقشات الدائرة بشأنها، تشير إلى مسار قد يصل إلى نتائج ملموسة فى المستقبل. البنية التحتية المالية الجديدة: تتطلب مسألة استمرارية المدفوعات الدولية بالعملات الوطنية وسلاستها إنشاء بنية تحتية متينة ومستقلة لعمليات المدفوعات والمبادلات والاستثمار والتدفقات النقدية والتأمين وإعادة التأمين. تحقيق السيادة التكنولوجية: إن العقوبات الاقتصادية والقيود متعددة الأشكال على انتقال التكنولوجيا الحديثة بصورة خاصة، التى فرضتها الولاياتالمتحدة وحلفاؤها على العديد من البلدان، وفى مقدمتها دول كبرى كالصين وروسيا، دفعت تلك الدول إلى بذل جهود استثنائية للتحرر من التبعية التكنولوجية؛ فحقق بعضها تقدما يعتد به فى هذا المجال. فتظهر الشركات الصينية نجاحات باهرة فى عدد من القطاعات الحديثة، وتحديدا فى الاقتصاد المبنى على المعرفة والابتكار والتكنولوجيا فائقة الدقة. وفى روسيا أسهمت العقوبات فى تحفيز اتجاهات انعتاق الاقتصاد وتحرره من الاعتماد على الاستيراد، أى العمل على تحويل الأزمة إلى فرصة لتحقيق السيادة التكنولوجية. وثمة محاولات مماثلة فى دول أخرى، وإن كانت لا تزال أقل شمولية. * • • عموما، نحن الآن أمام عملية حثيثة لتفكيك الأحادية القطبية الاقتصادية ولنشوء نظام اقتصادى عالمى جديد تظهر معالمه فى الأفق. وهى عملية صعبة وعسيرة تتخللها حالات تقدم وتراجع، وصراعات وصدامات، تأخذ فى جانب منها أشكالا عنفية، غير اقتصادية. فالغرب لن يتخلى بسهولة عن هيمنته، وسيعمل بكل الوسائل والقدرات المتاحة لمنع انتقال مركز الثقل الاقتصادى إلى مكان آخر، والتجربة التاريخية تظهر أن الإمبراطوريات، عندما تتراءى بدايات مؤشرات أفولها، تصبح أكثر عدوانية وشراسة فى الدفاع عن هيمنتها!