محمود الوردانى.. من الكتاب الذين عاشوا تجربة حياتية قاسية، فمنذ أعوامه الأولى تنقل بين مهن متفرقة، اختلط فيها اليتم بالمكابدة فى العمل، وبراءة الطفولة بخشونة الظروف، التى فرضت عليه وهو عيّل بذل جهد رجل فى مصبغة. ثم فى محل لبيع عصير القصب، وصبى فى مقهى، ثم انتقل إلى استوديو، لكنه هرب من هذا كله إلى القراءة، لتعوضه الفقدان، وتزيح متاعبه، كما هرب من تأثيرات كل هذه الآلام حين احترف الكتابة، واستعان بفنية الإبداع وحيله، ليتغلب على الأحزان، حتى لاتسقط رواياته فى شرك المناحات. باتت الكتابة لديه متعة لا تقل عن القراءة، ومسئولية تساوى المشقات التى عاناها، وأداة لحمايته من الاكتئاب والإحباط، وفرصة للتحليق فى القصة والرواية خلف أحلام أبدية، قطعت أنفاس المبدعين عبر تاريخ الإنسان. قدم لنا مؤخرا مجموعته « الحفل الصباحى» بعد فترة انقطاع عن القصة القصيرة، وهى الرابعة بعد «السير فى الحديقة ليلا»، و«النجوم العالية»، و«فى الظل والشمس» وست روايات منها «نوبة رجوع» و«رائحة البرتقال» و«الروض العاطر» و«موسيقى المول»، وحول مجموعته الأخيرة يدور هذا الحوار: الشروق: لماذا يلاحق الخوف أبطال مجموعتك الأخيرة «الحفل الصباحى» إلى هذا الحد؟ الورداني: بدءا من 2005 والأعوام اللاحقة جرت فى مصر كمية غير مسبوقة من حركات الاحتجاجات والإضرابات والتظاهرات، وبدا لى وقتها أن الناس مقدمون على انتزاع حقوقهم السليبة منذ أكثر من ثلاثة عقود، ولا تتخيلى حجم البهجة الذى شعرت به وقتها، وتخيلت أن الناس خرجت لمواجهة قمع وحشى تعرضت له بالفعل، واعتبر نفسى محظوظا أننى شاهدت هذا كله، لكن ما جرى بعد ذلك كاد يدفعنى للجنون وتعرضت لفترة اكتئاب حاد. وبالطبع يمكن بقليل من التأمل فهم ما جرى منطقيا وعقليا ويمكن أن أشير إلى عجز النخبة عن التأثير وعجز الأحزاب الرسمية والكيانات غير المؤسسية عن التعامل مع هذا الغضب العارم النبيل، وكل ذلك يمكن فهمه عقليا، لكننى لم أستطع فهمه على المستوى النفسى والوجدانى، وهكذا كتبت القصص الست ومازال لدى أمل أن أنجز بقية الكتاب، ليصبح عملا كبيرا، يضم كل شبر مررت عليه وكل مظاهرة أو إضراب أو احتجاج شاهدته، وبهذا أعالج نفسى من نوبات جنون واكتئاب كانت تطاردنى بين الحين والآخر. وستلاحظين إن كل نهايات قصص مجموعتى «الحفل الصباحى» ترعبنى شخصيا، فأغلب الشخصيات يتم العصف بها وتعذيبها وقتلها أحيانا دون مبرر، فأشعر أن ثمة قوة متسلطة لا مهمة لها غير الإيقاع بهؤلاء الناس والتمثيل بهم، ويذهلنى أن الواقع تجاوز السريالية. الشروق: اسم قصة «سورة الماء» مربك لما فيه من لبس مع المقدسات؟ الورداني: ليس مقصودا هنا أى تماس، كل ما فى الأمر أننى أحسست أننى أتناول واقعا ليس ابن اليوم لكنه ابن كل القرون الماضية، فالمشهد هو هو ويتكرر دائما. الشروق: ما ضرورة إعادة نشر «فانتازيا الحجرة» ضمن مجموعتك الأخيرة؟ الورداني: يفصل بين هذه القصة وبين السنة التى بدأت فيها الكتابة المنتظمة ما يقرب من ثلاثين عاما، ومع ذلك أحسست أن السطوة الغاشمة لمن يمتلك آلات القتل لم تتغير والقصة مكتوبة اليوم وكأنها تتمم القصص الست، بل مازلت أحلم بأن أكمل القصص السبع لتصبح مائة قصة قصيرة عن زماننا. الشروق: بدا القسم الثانى من المجموعة مغايرا للقسم الأول.. فهل قصدت ذلك؟ الورداني: عندما كتبت هذه المجموعة أحسست أننى غير قادر على الإضافة على الأقل فى المرحلة التى كتبت فيها المتتالية، أما القصص الثلاث فى القسم الثانى، فعلى نحو ما تتناول نفس مشاعر الفقد والضياع أو الفراق حتى لو كانت مكتوبة بشكل مختلف، ويمكن اعتبارها أحد وجوه المتتالية أو أحد تجلياتها. الشروق: أعمال بعض الأدباء تعكس هموم طبقة معينة.. ربما يعود لانتمائهم إليها.. فهل هذا يعنى عجز مخيلة الأديب عن استيعاب هموم الطبقات الأخرى، ولأى مدى تحقق هذا فى أعمالك؟ الورداني: هذا سؤال مشروع تماما وإن أخالفه، فليس هناك كاتب يعبر عن طبقة بعينها إلا فى فترات البلاهة التى عانينا منها فى بلادنا، ففى الخمسينيات والستينيات كان هناك كتاب واقعيون اهتموا بالطبقة العاملة لكن إنتاجهم كان قليل القيمة، ولا أظن أن مبدعا يكتب بحكم انتمائه الطبقى أو الإيديولوجى أو يتخصص فى الكتابة عن طبقات بعينها، فهذا خطأ، فالكاتب الحقيقى يتجاوز نفسه دائما ولا يخون طبقته. والكتابة فى ذاتها تجاوز وثورة على السائد، و«ت.س.اليوت» مثال شهير لأنه رجعى فى السياسة، لكنه كان شاعرا مهولا، وأظن النقد قام بتصفية هذه القضية وانتهينا منها منذ فترة، و«كافكا» أيضا ليس مجرد كاتب يعبر عن كوابيس سوداء بل يعبر عن الهموم حتى لو كانت مثل ما جرى لجوزيف ساما الذى استيقظ ليجد نفسه حشرة ضخمة. الشروق: قال البعض إن البناء الروائى فى بعض أعمالك قائم على فكرة مركزية، مما يؤدى لإقصاء الخيال رغم محاولتك إضفاء طابع فانتازى؟ الورداني: كثير مما يكتبه النقاد يصعب على الفهم، فلم أفكر فى مسألة وجود فكرة مركزية ما، فهل مثلا وجود الرأس فى رواية مثل «أوان القطاف» تعنى وجود فكرة مركزية، وإذا سلمنا بهذا.. فكيف يمكن أن يكون هذا إقصاء للخيال؟.. لا أبحث عن فكرة أنطلق منها بل عن إحساس لا أعرفه قبل الكتابة، أصل إليه عبر الكتابة.