مازلنا حتى الآن نناضل من أجل استقلال القضاء وإقصاء أى سلطة تنفيذية عليه، فمقياس تقدم الأمم يقاس بهذا الاستقلال، ولم يكن ما يحدث من نشاط لرجال القضاء حاليا بجديد، فإنهم يواصلون مسيرة أسلافهم الذين تولوا الدعوة وكافحوا من أجل الحصول على المكاسب التى ترقى بهم وترفع من شأنهم. ولم يكن طريق هؤلاء تفترشه الورود، وإنما كانوا ينحتون فى الصخر لعلهم يصلون إلى غايتهم، وعلى الرغم مما بذلوه من مشقة، فإنهم تعثروا كثيرا أمام عقبات السلطة التنفيذية، ومع ذلك لم يهنوا واستمروا. ونظرا لارتباط الزمن بحلقات متصلة، فإن الرجوع للماضى يخدم الحاضر الذى يعمل بدوره للمستقبل. ومن هذا المنطلق فالعودة إلى الأصول أى الجذور سوف تشعرنا اليوم بأن قضاة مصر يسيرون على هدى طريق آبائهم وأجدادهم من ناحية، ومن ناحية أخرى يكون الإدراك والوعى لأساليب وألاعيب السلطة التنفيذية منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى قيام «حركة الضباط المباركة» كما أُطلق عليها آنذاك فى 23 يوليو 1952. عندما أمسك محمد على(1805 1848) بزمام الأمور فى مصر، وبناء على مشروعه النهضوى، شغل القضاء المساحة على خريطته، وكان قد ورث قضاء اتسم بنقائص جعلته يخطو خطوات نحو التحديث، فرأى أن يشرك مع المحاكم الشرعية مجالس لها الاختصاص القضائى، اتخذت أسماء متعددة، ووُضعت لها اللوائح التى تهتدى بها، ولكنها كانت فى يده يحركها كيف يشاء، فتجمعت بين أصابعه الخيوط ليسيطر على السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية. وعلى المنهج نفسه مضى حفيده عباس حلمى الأول (1848 1854) مع بعض التغييرات التى حافظت على الاستمرارية. وبانتقال الولاية إلى سعيد (1854 1863) حدث نوع من التذبذب ما بين الإلغاء والإعادة لبعض المجالس القضائية، وقد وضح تماما الاستبداد فى هذا الشأن. وهنا لابد من الإشارة إلى أن القضاة الذين مارسوا المهنة قد افتقدوا المتطلبات الأساسية لها، فمعظمهم أتراك اعتمدوا على وضعهم الاجتماعى، وسيطر عليهم الجمود، وتفننوا فى تعقيد القضايا المعروضة أمامهم. وبتولى إسماعيل الحكم (1863 1879)، ووفقا لخطة تحديث جديدة، تم إدخال تعديلات على القضاء، ولكن فى إطار سيطرة الإدارة عليه. وبمولد مجلس النظار (الوزراء) عام1878أصبح هناك نظارة للحقانية، بعد أن كانت أعمال القضاء تابعة للداخلية. وعلى الرغم من أوتقراطية إسماعيل، فإن خطة مشروعه فرضت عليه الاهتمام بالقانون خاصة الفرنسى. وعلى جانب آخر، وبجوار المجالس القضائية القائمة، وُجدت مجالس تجارية مختلطة، دخلها العنصر الأجنبى بجوار الوطنى، واختصت بالحكم فى المنازعات الاقتصادية، وكان محمد على قد أسسها لتساعده فى تحقيق سياسته فى هذا الأمر، واستمرت تلك المجالس ولكنها لم تنج من التسلط الذى مارسته المحاكم القنصلية التى طال تدخلها وواصلت سطوتها على مصر والمصريين، مما دفع إسماعيل إلى البحث عن نظام قضائى جديد يحد من التدخل القنصلى، ويوقف إغارته على سلطته، وكان المهندس الذى وُكلت له مهمة ذلك المشروع هو نوبار باشا، تلك الشخصية القوية والخلافية. وأسفرت النتيجة عن نشأة المحاكم المختلطة عام1875، وهى محاكم مصرية من الناحية الرسمية، ولكنها اصطبغت بالصبغة الأجنبية، وقد تشكلت من قضاة أجانب ومصريين، والأولون لهم النسبة الأعلى. ودخلت مصر بتلك المحاكم دائرة التقنين الأوروبى الحديث، وبموجبها فصلت السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية. وانقلب الميزان، حيث وقفت بالمرصاد أمام هيمنة إسماعيل التى نالت من القضاء، فأصدرت أحكامها ضده، ولم يستطع أن ينبذ بكلمة واحدة، لدرجة أنه قال: «لوكنت أعلم أنها سوف تسلبنى سلطتى، لكنت قطعت يدى قبل توقيع مرسوم إنشائها».