كان المثقف المصرى أغلى ثروات مصر، وكان دائما يتصدر المشهد ويجد أمامه كل فرص الانطلاق والتقدير والمكانة.. لم يكن المثقف فقط من حصل على الشهادات العليا، ولكن كل إنسان تميز فى مجاله كان مثقفا يتمتع بمكانة خاصة بين الناس.. كان أستاذ الجامعة مثقفا، وكان المدرس والطبيب والفنان والقاضى والعالم مثقفا، وكان المجتمع يضع المثقف فى مكانة خاصة. لم يكن غنيا، ولكنه كان مكتفيا وقانعا، ولم يكن صاحب سلطة أو نفوذ، ولكن كانت له هيبة العالم ووقار المجتهد.. رغم أن مصر لم تكن دولة غنية بالمال، فإنها كانت غنية بالرقى والكرامة، وكان العالم ينظر إلى مصر كدولة متحضرة وشعب مبدع.. وكل من هبط على أرضها أحب فيها الشموخ والاعتزاز بالوطن.. عندما خربت الحرب العالمية الثانية أوروبا، هاجر الملايين من شعوبها إلى مصر طلباً للأمن والحماية ، ولا يوجد مثقف عربى كبير إلا وعبر من بوابة مصر كاتبا أو معلما أو طبيبا. فى العالم العربى، تجد الأجيال القديمة تتحدث عن دور مصر فى نهضة الشعوب العربية ثقافةً وتعليما وصحةً وبناءً.. حتى العامل المصرى الذى شيد وأبدع فى هذه الدول كان مثار تقدير وعرفان من شعوبها.. كان هذا حال مصر الثقافة حين أضاءت العقل العربي، حتى فى سنوات الاحتلال والتبعية، كانت مصر هى التى قدمت دروس الوطنية والدفاع عن حرية الإنسان وكرامته، وقدم المثقف المصرى أروع الدروس لشعوب الأمة العربية فى تحرير إرادتها. كانت هذه مصر الثقافة التى أبدعت وعلمت واستحقت الريادة، وقدمت للعالم نماذج فريدة فى الإبداع والرقى والتميز.. ومنذ تراجع دور المثقف المصرى فى وطنه، انعكس ذلك على دوره خارج حدوده.. لقد تراجع هذا الدور اجتماعيا فلم يعد فى صدارة المشهد كما كان، فلم تعد الثقافة درة مصر وتاجها ، وانزوى كل أصحاب الفكر والرؤى بعيدا.. لم يعد المجتمع يقدر دورهم ، فلم يعد الكاتب مطلوبا كصاحب رأي، ولم يعد الطبيب مهيبا كصاحب رسالة، ولم يعد المدرس رسول المعرفة.. سقطت رموز كثيرة، حتى المجتمع لم يعد يعطى هذه الرموز حقها من التقدير والهيبة.. كانت النتيجة أن انسحب صاحب الكلمات، وهاجر الطبيب، وجلس المدرس فى بيته للدروس الخصوصية، وانزوى أستاذ الجامعة بعد أن رأى الآلاف حوله من حملة الدكتوراه بلا عمل.. ظهرت فئات وجماعات أخرى تصدرت المشهد، ودفعت أهل الفكر والثقافة إلى آخر الصفوف، وفرضت على المجتمع كله واقعا جديدا.. لم يعد الفكر صاحب الكلمة، ولكن المال سيد الجميع.. وسط هذا المناخ، اختفت رموز الإبداع الحقيقي، وسادت أشباح من الغوغائية أفسدت أذواق الناس وشوهت عقولهم ، فسادت فى الدين موجات التطرف والفكر المريضة، وفقد الذوق المصرى أهم مقومات الترفع والرقى فيه، وفقد العقل المصرى أهم ثوابته فى الموضوعية والحوار.. وقبل هذا كله، فقدت مصر أهم عناصر وجودها ودورها، وهو المثقف المصري.. إن الأسباب واضحة وليست فى حاجة إلى اجتهادات كثيرة.. لابد أن تعود الثقافة إلى صدارة المشهد ، وأن يستعيد المثقف دوره فكرا ومشاركة وإنجازا، وأن نستعيد إيماننا القديم بدور الثقافة وأنها تاج مصر الحقيقي.. ينبغى أن يكون للفكر دوره، وأن تضع مؤسسات الدولة الثقافة فى مقدمة أولوياتها، وأن يسترد المجتمع توازنه ويدرك أن المال ضرورة، ولكنه يخسر كل شيء إذا غاب الفكر واختلت موازين الأشياء.. لم تكن مصر فى يوم من الأيام وطنا فقيرا، ولكنها كانت غنية بفكرها ومبدعيها وقدرات شعبها. أعيدوا مصر الثقافة.. كانت الثقافة تاج مصر الحقيقي، رموزا وإبداعا ودورا، إن مصر هى التى خرج منها نجيب محفوظ، وزويل، وحمدان، والعقاد، وطه حسين، والحكيم، وشوقي، وحافظ، وهيكل، ومصطفى أمين، وأنيس منصور، ومجدى يعقوب، وعمر الشريف، وعشرات المبدعين وأصحاب الفكر والعلماء. ولم يكن هذا الإشعاع مقصورا على شعبها فحسب، ولكنه امتد إلى الملايين التى شاركت مصر فى هذا المناخ الفريد.. كانت رموز الثقافة المصرية أعلاما فى كل عاصمة عربية، كانت شموع مصر تضيء أينما وجدت رموزها ومبدعوها.. منذ تراجعت المسيرة، وجدنا من ينتقد ومن يشكك، ولا بد أن نعترف بأن البعض كان على حق لأن السلعة الرديئة لم تكن إنتاجا مصريا.. إن فكر الدولة المصرية لابد أن يعود إلى مساره ويضع الثقافة فى مقدمة أولوياته إبداعا وذوقا وفكرا وريادة.. هذه مصر التى عرفناها، وينبغى ألا تفرط فى دورها ومسئوليتها.. إن المثقف المصري، أيا كان موقعه واختصاصه، يمثل أهم وأغنى ثروات مصر التى ينبغى أن تحرص عليها وتوفر له الدور الذى يستحقه والحياة الكريمة التى تمنحه كل فرص الإبداع والتقدم.. جاء الوقت لأن تتخلص الثقافة المصرية من شوائب كثيرة لحقت بها، فأفسدت الأذواق وشوهت لغة الحوار، وأدخلت على الشارع المصرى لغة غريبة تتنافى مع كل ثوابته فى السلوك والأخلاق ... وفى تقديري، فإن الدولة لابد أن تتدخل لكى تعيد للثقافة لغة وغناء وذوقا ثوابتها القديمة..