طغت الأحداث المتلاحقة على بعض التطورات المهمة أخيرا التى قد تمس حرية الصحافة والإعلام والاتصال فى العالم العربى، وخاصة فى الدول التى تحكمها قوانين الطوارئ أو مكافحة الإرهاب. من هذه التطورات الاجتماع الاستثنائى للجنة الدائمة للإعلام العربى الذى كان من المقرر عقده هذا الأسبوع فى مقر الجامعة العربية لبحث مشروع إنشاء مفوضية للإعلام العربى، ثم أدى اختلاف وجهات النظر إلى تأجيله حتى 30 مايو، والثانى هو اجتماع الاتحاد العام للصحفيين العرب فى تونس الأسبوع الماضى. الاجتماع الأول هو حلقة فى سلسلة ممتدة لمحاولات تهدف إلى وضع ضوابط تحكم حرية الفضائيات وشبكات التواصل الإلكترونى، والثانى اجتماع دورى جرى فى فترة ما بين الإفراج عن صحفى تونسى مسجون تبعه اعتقال صحفى آخر دون أن يهتز للاتحاد طرف إلا فى حدود بيان عام يتناول ضمن عموميات أخرى أن الصحفيين العرب يعانون قيودا على حرية التعبير منها عقوبة الحبس. ويبدو أن علاقات النظم والحكومات العربية بوسائل الإعلام قد بلغت مرحلة حرجة تجاوزت قدرة احتمال النظم للحريات التى أباحتها لنفسها الفضائيات، والمدونات الإلكترونية بالذات، سواء منها ما كان جادا أو جارحا للذوق العام، مما يستدعى تدخل النظم والحكومات. الاقتراح الخاص بإنشاء مفوضية للإعلام فى إطار الجامعة العربية يثير أكثر من سؤال مقلق، الأول هو هل تكون المفوضية جهازا للرقابة المبطّنة بين الدول العربية وبعضها، وكيف تتفق المعايير بين دولة وأخرى، وإلى من تحتكم الدول إذا اختلفت التفسيرات؟ وثانيا إذا كانت سلطة الدولة هى التى ستحدد آليات التطبيق فهل يجوز لدولة ما إن تغلق فضاءها فى وجه قناة فضائية تبث من دولة أخرى؛ لأن المضمون لا يتفق فى رأيها مع القيم والمعايير التى تنص عليها آليات المفوضية؟ وهل يمكن أن تكون هناك قواسم إعلامية مشتركة بين لبنان وليبيا ومصر والسعودية وقطر؟ وكيف سيتم التمييز بين حرية التعبير والتواصل فى الفضاء الإلكترونى وحرية الرقيب فى حظر ما لا ترتضيه السياسة الخاصة للنظم غير الديمقراطية؟ مصر تريد حق حجب برامج الفضائيات التى لا تروق لها وقطر تعارض الرقابة وسياسة فرض العقوبات. ليس هناك من خلاف فى أن الفوضى الإعلامية الفضائية فى العالم العربى تثير البلبلة والقلق أخلاقيا وسياسيا ودينيا. لكنها فى جزء منها نتيجة طبيعية للانفتاح على العالم بتحولاته الفكرية والعلمية والاقتصادية والسياسية المتسارعة، ورغبة الدول العربية فى مواكبة هذه التحولات بشروطها الخاصة التى تعود فى جانب كبير منها إلى قيم الدولة العثمانية. إننا نريد أن نستقدم أدوات العلوم والتكنولوجيا العصرية ونستخدمها من خلال فلتر ينزع منها القيم الثقافية والعصرية التى أدت إلى اختراعها فى المقام الأول.. نريد الثمرة بدون الشجرة، نريد التقدم بدون حرية الفكر، ونريد وسائل الاتصال والإعلام والترفيه دون تسرّب قيم الحرية والاجتهاد والاختلاف فى الرأى التى هى السبب فى وجودها. يحضرنى حادث جرى لى منذ سنوات بعيدة مع سائق تاكسى فى تونس أقلنى من الفندق الذى كنت أنزل فيه إلى قصر المؤتمرات حيث يعقد مؤتمر كنت أحضره. وسائق التاكسى فى أى مدينة كما يعرّفه الصحفيون هو «عين المدينة» إن لم يكن مؤرّخها وفيلسوفها أيضا. بعد ديباجة الحديث والتعارف سألنى السائق إن كنت املك بعض وسائل الحياة العصرية كالسيارة والتليفزيون والتليفون والثلاجة والأدوات الكهربائية (ولم يكن الكمبيوتر أو الموبايل قد دخلا إلى سوق الاستهلاك بعد) عجبت للسؤال، لكننى أجبته بالإيجاب. هز رأسه ثم قال متعجبا: هذه كلها اختراعات غربية تستوردها بلادنا، أليس كذلك؟ قلت: هذا صحيح.. قال: والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان اختراعات غربية أيضا فلماذا لا نستوردها مثل بقية الأشياء؟ وكان السؤال قاسيا بقدر ما كان بليغا! وفى تونس أيضا عقد اتحاد الصحفيين العرب اجتماعه السنوى الذى تزامن مع اعتقال الصحفى التونسى المعارض زهير مخلوف والاعتداء عليه من قبل رجال الأمن، وذلك قبل يومين من الإفراج عن صحفى معارض آخر هو توفيق بن بريك بعد سجنه لمدة ستة أشهر بتهمة الاعتداء على سيدة أعمال قال بن بريك أنها تهمة ملفقة. ومنذ أيام قليلة طالبت ثلاث منظمات دولية لحقوق الإنسان من بينها الفيدرالية الدولية والمنظمة الدولية لمناهضة التعذيب الاتحاد الأوربى بعدم منح تونس وضع الشريك المتميز للاتحاد حتى تفى بوعودها بتحسين سياساتها فى مجال حقوق الإنسان..لم يمنع ذلك رئيس الاتحاد العام من إهداء درعه إلى الرئيس زين العابدين بن على. فى هذا السياق ترى كيف ستتعامل تونس مع آليات تنظيم البث الفضائى فى مجالها؟ برز موضوع «تنظيم البث الفضائى» فى المنطقة العربية منذ عامين فى اجتماع وزراء الإعلام العرب فى فبراير 2008 بضغوط سعودية مصرية. وكان الظن السائد وقتها أن المقصود به هو الضغط على قناة الجزيرة القطرية للحد من سقف البرامج الحوارية السياسية التى تعرض من الموضوعات ومن آراء المثقفين والسياسيين المعارضين فى الدول العربية ما يحرج النظم والحكومات العربية التى لا تجرؤ أجهزتها الرسمية التى تخضع للرقابة أن تخوض فيها. بالإضافة لذلك كانت هناك اجتهادات لبعض أصحاب برامج الحوار والاستقصاء الصحفى فى القنوات الخاصة انطوت على تزوير مهنى خطير، ومنها ما تناول من الأمور ما يخدش الحياء العام بشكل فاضح، ومنها برامج الغمز واللمز والإيحاءات الإباحية على سبيل الترفيه، وجذب المشاهدين بإثارة الغرائز، ناهيك عن برامج الفتاوى الدينية التى تنشر الشعوذة وتغيّب العقل باسم الدين. مع ذلك فإن من الإنصاف الاعتراف بأن قناة الجزيرة قدمت إسهاما لا ينكر فى تحديث وتحرير المفاهيم الإعلامية السائدة فى العالم العربى التى تخضع لأهواء الحكّام ومصالح النظم القمعية، ومن أحادية الرأى والفكر السلطوى. صحيح أن الحرية التى تتمتع بها قناة الجزيرة هى جزء من مقايضة طرفها الآخر هو عدم تناول النظام القطرى أو الأوضاع الداخلية هناك، لكن القيم المهنية وتعدد الرأى على ما أظن ستفرض نفسها فى النهاية. إن الجزيرة تكتسب احترامها من الأداء المهنى المتوازن، وليس من انتظار الضوء الأخضر لذم رئيس دولة عربية والتعرّض لزوجته. مفوضيات أو لجان تنظيم البث الفضائى ليست بدعة وهى موجودة فى الدول الغربية ولكن بمفهوم مختلف. هى أولا لا تخضع لسلطة الحكومات أو سياساتها، فالحكم يقوم على مبدأ تداول السلطة لا توالدها،والفضاء القومى هو ملك للشعب، والمفوضيات تنظّم استخدامه وليس مضمونه كما يشتّم من مشروع المفوضية العربية المقترحة. فى الولاياتالمتحدة مفوضية فيدرالية للاتصال تابعة للكونجرس لا للحكومة وهى رغم لجانها الكثيرة ومهامها المتعددة والأمور المعقدة التى تتناولها والتراخيص التى تمنحها وتجددها للآلاف من محطات الإذاعة والتليفزيون، لا يخرج التفويض الذى يحكم عملها عن ثلاثة مبادئ رئيسية: أن يكون استخدام الفضاء المرخّص به من أجل الصالح العام، وأن يراعى الإنصاف فى إتاحة الوقت المتعادل لمختلف الآراء، ومراعاة الذوق العام. وحتى لا تختلط الأمور ما بين التنظيم والرقابة فإن تجديد تراخيص عمل المحطات واستخدام الموجات والترددات الممنوحة لها كان يتم حتى وقت قصير مضى على أساس جلسات استماع علنية لجمهور مستنير عادة من المعنيين بهذه المحطة أو تلك الشبكة، يبدون خلالها آراءهم فيما يشاهدون أو يسمعون، وتشكل أساس القرار بتجديد الترخيص أو إخطار المحطة بمخالفاتها لتصحيحها، أو سحب الترخيص فى حالات الانتهاك الجسيمة، وهى نادرة لأن معظم المحطات تجارية ولا تريد أن تخسر جمهورها وإعلاناتها ومواردها. ثقافة التنظيم لا تقوم على مفهوم الوصاية على الشعب ولا رقابة الحكومات، وإنما على تمكين الناس من تنمية ثقافة الرأى والذوق العام واحترام الاختلاف فى الرأى وحرية التعبير والعقيدة. كنا نظن حتى وقت قريب أن الفضاء الإلكترونى وشبكات التواصل الاجتماعى التى يحتضنها هى أبعد حدود حرية التعبير التى يصعب على يد الرقيب أن تمتد إليها، لكنا كنا مخطئين. صحيح أن بعض الأشرار قد استغلوا هذا الفضاء الحر البرىء لاستدراج الأطفال والنشء إلى ممارسات جنسية صادمة، لكن الأمر انتهى إلى خلط الأوراق واستغلال حجج حماية الشباب والحفاظ على القيم لفرض رقابة سياسية وملاحقة الناشطين على الانترنت الذين يفضحون ممارسات سلطات حكم الطوارئ المهينة واللاإنسانية ضدهم. وليس أبلغ من دليل إلا ملاحقة حركة شباب 6 أبريل فى مصر الذين نظّموا منذ عامين احتجاجات المحلة الكبرى عن طريق الفيس بوك، وما عانوه من اعتقال واستجواب قاس ومحاكمة أفضت ببعض منهم إلى السجن، وأصبحوا بعد ذلك هدفا لجهاز أمن الدولة. وأما الترويج لأن مشروع المفوضية سيتضمن خطة للتحرك الإعلامى العربى فى الخارج فهو وهم غير وارد لأن الإعلام العربى موجه أساسا لفرض الرقابة على الداخل وترويضه، ولا قبل له ولا تجربة فى مخاطبة الخارج إلا بلغة الدعاية الفجة التى تستند إلى منطق الإرشاد القومى وتفتقر إلى المصداقية. إن أردت أن تخاطب رأيا عاما حرا فلا بد أن تكون الحرية هى أعلى قيمة إنسانية لديك. وإذا كان هناك خيار بين حماية الناس مما قد يسىء إليهم بفرض الرقابة على ما يقرءون ويستمعون ويشاهدون ويتبادلون من معلومات وآراء وبين ترك حرية الاختيار لهم، فإن الاختيار الحر مع احتمال الخطأ أفضل من تحكّم سلطة الحكم فى قيم المجتمع وحرياته. مناخ الحرية قادر على تصحيح الانحرافات، أما ثقافة القمع فلا تستطيع إلا استنساخ نفسها.