كأن إسرائيل تمتلك وحدها الحقيقة المطلقة، ومن ثم يتعين على داعمها الأكبر والأقوى، الولاياتالمتحدة ومن يسير على دربها، التصديق مباشرة على الرواية الإسرائيلية أيا كانت، دون النظر لأي اعتبارات أخرى تتعلق بمجتمع دولي يفترض أن تحكمه قوانين وأعراف معينة. فهذا المعسكر الذي ربما لم يسمع عن قرار صدر الجمعة عن أعلى هيئة قضائية دولية، وهي محكمة العدل الدولية، بشأن دعوى تواجه فيها إسرائيل اتهامات بارتكارب جرائم حرب وجريمة الإبادة الجماعية في غزة، يبدي صمتا مطبقا أمام رفض إسرائيلي لقرار المحكمة بل وتوجيه اتهامات لها يشي بعدم الانصياع لقراراتها أو الاعتداد بها. وفي المقابل، توالت قرارات فورية من قبل واشنطن ومعسكرها بعد قرار المحكمة بساعات بوقف تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، تفاعلا مع اتهام تل أبيب للوكالة بمشاركة عدد من موظفيها في الهجوم الذي شنته حركة حماس في 7 أكتوبر الماضي. فلم تنتظر واشنطن ورفاقها حتى نتيجة التحقيق الذي أعلنت الأونروا فتحه في الاتهامات الإسرائيلية وسارعت بالإعلان عن قرارها الذي من شأنه غل يد الوكالة عن ممارسة عملها، لاسيما في قطاع غزة في وقت هو الأصعب في ظل أوضاع إنسانية مزرية بعد نزوح نحو 85% من سكان القطاع مع تواصل الحرب التي يتعرض لها أهله منذ حوالي خمسة أشهر. وأثارت المواقف الأمريكيةالغربية حفيظة العديد من الدول العربية التي حذرت من خطورة وقف تمويل الأونروا. وفي اتصال هاتفي أجراه وزير الخارجية المصري سامح شكري مع المفوض العام للوكالة فيليب لازاريني، أكد شكري دعم مصر الكامل لدور الوكالة فيما تواجهه من تحديات، مشددا خلال الاتصال على الدور المحوري الذي تضطلع به وفق تكليفها الأممي في تقديم الخدمات الأساسية للاجئين الفلسطينيين، وكذلك فيما يتعلق "بالجهد الإنساني الضخم الذي لا يمكن الاستغناء عنه في توفير الملاذ الآمن وتقديم المساعدات الإنسانية للفلسطينيين في غزة في ظل تفاقم تأزم الوضع الإنساني في القطاع". ونوه شكري بأنه "من غير المقبول" اتخاذ بعض الدول قرارات بتعليق تمويلها لأنشطة الوكالة في هذا التوقيت "دقيق الحساسية، فيما يبدو أنه بمثابة عقاب جماعي ضد جميع العاملين في الوكالة، والذين يبلغ عددهم حوالي 30 ألفا، وكذلك أبناء الشعب الفلسطيني، على إثر مزاعم تتعلق بتورط عدد محدود جدا من موظفي الوكالة في أحداث 7 أكتوبر، وهي المزاعم التي لاتزال قيد عملية تحقيق ومراجعة داخلية بأجهزة الوكالة تتسم بالشفافية". ومن جهته، وصف لازاريني قرار عدد من الدول بتعليق تمويل الوكالة بأنه "صادم". وقال في بيان: "هذه القرارات تهدد العمل الإنساني الجاري حاليا في المنطقة خاصة في غزة". وأضاف: "إنه لأمر صادم أن نرى تعليق تمويل الوكالة كرد فعل على الادعاءات ضد مجموعة صغيرة من الموظفين"، لا سيما في ضوء التدابير التي اتخذتها الوكالة الأممية التي "يعتمد عليها أكثر من مليوني شخص من أجل البقاء على قيد الحياة"، داعيا الدول التي جمدت تمويلها للوكالة بإعادة النظر في قراراتها. وكان وزير الخارجية المصري أكد خلال مؤتمر صحفي مع نظيره السعودي فيصل بن فرحان في القاهرة أمس الأحد أن "الألفاظ التي استخدمت ضد موظفين بالأونروا لم تستخدم احتجاجا على استشهاد 26 ألف فلسطيني"، في إشارة لازدواجية المعايير في التعامل مع بعض القضايا وفقا لمحددات معينة. وقال شكري: "لابد أن يكون هناك تحقيق في الاتهامات وليس استباقا للإدانة"، بينما شدد بن فرحان على الحاجة لقرار دولي إلزامي "لإيقاف العدوان على غزة". وقال الوزير السعودي: "الأولوية هي لوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات إلى غزة.. المطلوب إلزام إسرائيل بالقانون الدولي". وأعرب عن رفضه "سياسة التجويع والحصار لأبناء الشعب الفلسطيني فى قطاع غزة". وفي السياق، ذكرت صحيفة الجارديان البريطانية أن وكالة الأونروا، التي تأسست عام 1949، تقدم خدماتها لأكثر من 6ر5 مليون فلسطيني في الأراضي المحتلة، ومن بينها القدس واللاجئين في سوريا ولبنان والأردن. وأشارت الصحيفة إلى معاناة الوكالة لجمع التمويل في السنوات الأخيرة، وأن الأمر زاد تعقيدا مع قرار الإدارة الأمريكية خلال ولاية الرئيس دونالد ترامب في عام 2018 بوقف تمويل واشنطن للوكالة قبل أن يعيده الرئيس الحالي جو بايدن، علما بأن الولاياتالمتحدة هي أكبر ممول للأونروا، حيث بلغت قيمة تمويلها 340 مليون دولار في 2022. ولفتت الجارديان إلى حقيقة ربما لم يلتفت إليها أيضا الكثيرون ممن هالهم مجرد الاتهامات الإسرائيلية، وهي مقتل 152 من موظفي الأممالمتحدة منذ الحرب التي أعلنتها إسرائيل بعد السابع من أكتوبر، كما ألقت الضوء على توتر العلاقات بين الأونروا وإسرائيل بعد استهداف الأخيرة ملجأ تابعا للوكالة في خان يونس بقطاع غزة الأسبوع الماضي كان يؤوي 800 شخص، ما أسفر عن مقتل 13 شخصا. ونقلت الصحيفة عن مايراف زونسزين، كبيرة محللي الشئون الإسرائيلية في مجموعة الأزمات الدولية، قولها إن "إسرائيل دأبت على بناء قضية ضد الأونروا منذ فترة طويلة. وقالت قبل أسابيع إنها تريد خروجها التدريجي من غزة". وأضافت زونسزين: "وبغض النظر عن صحة التهمة، فإن قرار مسايرة هذه الأخبار يبدو وكأنه محاولة لصرف الانتباه عن حكم محكمة العدل الدولية بشأن الإبادة الجماعية في غزة". من جانبها، ذكرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية أن اتهامات إسرائيل ل12 موظفا بالأونروا هي الحلقة الأحدث في مسلسل المناوشات بين تل أبيب والوكالة الأممية الممتد على مدار عقود. ويحذر مراقبون من أن خطورة تزايد حدة الاستقطاب واتساع الهوة بين فريق يرى أن له الحق واليد الطولى لإصدار أحكامه وتسيير شئون العالم وفقا لمنظوره، وآخر يرثي القانون الدولي ومنظمات وهيئات المجتمع الدولي لعجزها عن كبح جماح الفريق الأول، وسط أحاديث متزايدة عن ضرورة بزوغ نظام دولي جديد بآليات وأدوات مغايرة.