"أنت مسيحي؟". سؤال "يكسف" في رأى يوسف، يشعر معه أن السائل ضعيف البصيرة، نفسه من الداخل ضعيفة تائهة، وكأن اعتناقي المسيحية "يخليني ناقص"، أو أشبه بكائن "عنده جرب" ومن المفترض الابتعاد عنه. لا يحسب يوسف المرات الكثيرة التي وجه له المحيطون هذا السؤال، ويرد دائما على السؤال بسؤال: ها تفرق كتير؟. أنا مصري واسمي يوسف. يعيش يوسف في حي عين شمس منذ طفولته، ولا يشعر بمشكلة حقيقية تجاه جيرانه المسلمين، ولكنه يفضل أن يعيش "في حاله" بعيد عن دائرة الضوء، التداخل القوى بين المسلم والمسيحي في رأيه "ممكن يعمل مشاكل، إحنا في غنى عنها". كنيسة العذراء مريم التي تقع في شارع أحمد عصمت بحي عين شمس، هي أكثر علامة مميزة لمنزل يوسف، الذي انتقل له منذ عشر سنوات عقب زواجه، ولكنه يفضل عند وصف المنزل أن يقول لزائره إن البيت في شارع مسجد نور الإسلام، عند مقلة اللب". ليس خوفا من إعلان مسيحيته صراحة، ولكن لرؤية خاصة به، فهو مقتنع تماما أن عقيدته هي علاقة خاصة بينه وبين خالقه، ليس لأحد حق التدخل فيها، حتى ولو بمجرد التفكير. مرارة الشعور بالتمييز لا يضع يوسف صليبا في عنقه أو على باب منزله، ولا يقول أبدا "الشارع بتاعى على أوله كنيسة"، لأنه يتخيل أن رد الفعل الطبيعي لدى الآخر "هو قال كده علشان يعرفني أنه مسيحي". بيت عائلة يوسف يبعد خطوات قليلة عن منزله، فهو "عين شمساوى أصيل" والدته ربته وأخته مريم بعد وفاة الوالد على محبة الجميع والابتعاد عن المشاكل، وإن كان وهو صغير يتذكر أنه تعرض للضرب بسبب معاكسة فتاة مسلمة داخل المدرسة، نتج عنها تجمع فريق من الأولاد المسلمين، "عملوا نفسهم رجالة، وكأنه جهاد في سبيل الله". منزله بسيط يعلن عن عقيدة أهله بصورة كبيرة لمريم العذراء معلقة على الجدار المواجه لباب الشقة، وعلى الحائط المقابل صورة زفاف يوسف وزوجته ماريان، أما الطفلان هاني، 6 سنوات، وهادى، عامان، فصورهما على الطاولة الموجودة عند مدخل الشقة. يبتسم يوسف وهو يتذكر أول مرة سأله هاني ابنه، أثناء مرورهم بجوار المسجد وقت صلاة الجمعة "بابا هو ليه الناس قاعدين في الشارع كدا؟"، يعترف يوسف أنه شعر وقتها بالحيرة وبالمسؤلية الكبيرة تجاه ابنه. رفض الأب أن يقول له "دول مسلمين بيصلوا"، فيبدأ التمييز في النمو داخل الصغير، الذى لم يتجاوز الخامسة من عمره، ومازال يتعامل مع العالم كله على أنه كيان واحد. فضل الأب الذي عانى من مشاعر التمييز أن يقول للطفل "دا درس بس للكبار"، وعندما حور هاني بطفولته البريئة السؤال "بس فيه صغيرين قاعدين"، أجاب الأب "كل واحد جايب ابنه معاه". الطفل هانى لم يتوقف عن سيل الأسئلة، ولكن يوسف يرى أنه حصل على مهلة استمرت حوالى الشهر، وعاد بعدها هاني فى الهجوم على حد وصف الأب، "ليه يا بابا مش بتحضر الدرس دا وتاخدنى معاك؟". لحظتها شعر يوسف بكراهية الكذب، والتمييز الذي لابد وأن يأتي يوم ويشعر به طفله الصغير، والذي سيبدأ مع عامه الأول في المرحلة الابتدائية، عندما يصطحبونه مع زملائه المسيحيين إلى خارج الفصل من أجل حصة الدين، وهناك سيصطدم الطفل بالواقع: هذا مسلم وأنا مسيحي. ولكن كل ما دار فى ذهن يوسف لم يجعله يتراجع عن موقفه، فى تربية ابنه، فرد عليه بكل ثقة "إحنا بناخد الدرس دا في الكنيسة وأنت بتكون معايا"، وتوقع الأب سؤال هاني التالي "ليه مش بناخده في الشارع هنا مع الناس دول"، وهذه المرة فقط كان يوسف مستعدا بالإجابة "علشان هنا زحمة". صديقي الشيخ محمد لا يريد يوسف أن يشعر ابناه بما يصفه بأنه "معاناة الأقباط في مصر بسبب الأقلية"، حتى أنه لا يحب أن يخوض في أحاديث شعوره بالتمييز الديني مع أصدقائه المسيحيين. يشعر بهذا التمييز منذ طفولته في مدرسته، وأثناء دراسته الجامعية، وعمله كمحاسب والذي يرأسه فيه مدير مسلم. ينتقد يوسف تصريحات المسئولين، عندما تعرض المصريون للضرب فى السودان على أيدى الجزائريين من أجل مباراة كرة قدم. وقتها تعهد المسئولون برد كرامة المصريين، "أما الذين يذهبون بالداخل وتزهق أرواحهم بلا ذنب فلم نسمع عنهم حتى كلمة مواساة واحدة". يصف يوسف مدى شعوره بالألم، عندما يرى نظرات شخص تحدق في الصليب الصغير الموشوم على يده، ولكنه يحزن أكثر من مدى رجعية عقول هؤلاء، "طول عمر المسيحيين راسمين صليب، ايه الجديد اللي حصل؟". يتساءل باستنكار. يضيف أن البعض تقع عينه على الصليب "فيروح مشغل قرآن على موبايله، وكأني شيطان". هذا الموقف تكرر كثيرا مع يوسف في مترو الأنفاق، والميكروباص، وحتى عند بعض البائعين. لذلك رفض يوسف تماما أن يوشم لطفليه الصليب، حتى لا يكون ضحية اضطهاد قد يؤذى مشاعرهما، وترك لهما حرية الاختيار عندما يريدان ذلك. تمنى يوسف أن يحاول المحيطين به من العقائد المختلفة الإطلاع على عقيدة الآخر، حتى يستطيع التعامل معه بسلوك مبنى على ثقافة ووعى تتناسب مع معتقدات الآخر، فقراءة الإنجيل على سبيل الثقافة لا التدين، ستساعده على التعامل مع جاره في الدراسة والعمل والمسكن، وشقيقه في الوطن. ويتذكر يوسف أحد أفراد "شلته" فى الجامعة محمد الذي حاول أن يجعله يوما مسلما، وللأسف لم يكن يحمل من الإجابات ما يقنع حتى طفلا صغيرا، فهو نفسه "مش عارف هو ليه مسلم مش يهودي". حاول يوسف أن يقنعه بقراءة الإنجيل، وأجابه بكل عنف، على حد وصفه، "أنت عاوزني أكفر". هنا شعر يوسف بمدى القصور الفكري، الذي يعانى منه صديقه، فهو يرى أن قراءة الإنجيل قد تجعله يكفر، على الرغم من أن محمد لم يكن متدينا كما يقول يوسف، لكنه كان "بيحبنى أوى"، و"حكي لوالدته عنى" فقالت له "حاول تخليه يدخل الإسلام تكسب فيه ثواب". يصمتا يوسف قبل أن يضيف أن المفاجأة الأخيرة تمثلت في أن محمد طالب التجارة تحول بعد ذلك إلى داعية إسلامي.