برلماني : كلمة الرئيس باحتفالية عيد تحرير سيناء كشفت تضحيات الوطن لاستردادها    مساعد وزير التعليم: 8236 مشروعا تعليميا ب127 ألف فصل    برلماني: تنفيذ مخرجات الحوار دليل على جديته وقوته    انخفاض أسعار الأعلاف اليوم في بورصة الدواجن.. «تراجع أكثر من 1000 جنيه»    آخر موعد لتشغيل الخط الثالث للمترو بالتزامن مع مباراة الأهلي اليوم    إزالة 15 إنشاء مخالفا للقانون في مركز العريش    برلماني: انقطاع الكهرباء يمتد لثلاث ساعات في القرى    رئيس COP28: على جميع الدول تعزيز طموحاتها واتخاذ إجراءات فعالة لإعداد خطط العمل المناخي الوطنية    مواقف مصر إجهاض ل«أطماع إسرائيل» (ملف خاص)    خبير علاقات دولية: مواقف مصر قوية وواضحة تجاه القضية الفلسطينية منذ بداية العدوان    شولتس يدعو لزيادة دعم أوكرانيا في مجال الدفاع الجوي    مسؤول إسرائيلي: بلينكن يزور إسرائيل الأسبوع المقبل لبحث صفقة جديدة    عودة كيبا لتشكيل ريال مدريد أمام سوسيداد    الغيابات تضرب الاتحاد قبل مواجهة الجونة    علاقة متوترة بين انريكي ومبابي.. ومستقبل غامض لمهاجم باريس سان جيرمان    النصر يتعادل مع اتحاد كلباء في الدوري الإماراتي    محافظ قنا يعلن الطوارئ وغلق الطرق السريعة لحين استقرار الأحوال الجوية    كان بيستحمى بعد درس القمح.. مصرع شاب غرقًا في المنوفية    بالإنفوجراف والفيديو.. رصد أنشطة التضامن الاجتماعي في أسبوع    وسائل إعلام إسرائيلية: سقوط صاروخ داخل منزل بمستوطنة أفيفيم    حياتى أنت    بعد صورتها المثيرة للجدل.. بدرية طلبة تنفي دعوتها للشاب حسن في زفاف ابنتها    شركة GSK تطرح لقاح «شينجريكس» للوقاية من الإصابة بالحزام الناري    صحة دمياط تطلق قافلة طبية مجانية بقرية الكاشف الجديد    نائبة تطالب العالم بإنقاذ 1.5 مليون فلسطيني من مجزرة حال اجتياح رفح    تعرف على أعلى خمسة عشر سلعة تصديراً خلال عام 2023    تكثيف أعمال التطهير لشبكات الصرف الصحي بمحافظات القناة    سيد رجب: شاركت كومبارس في أكثر من عمل    السينما الفلسطينية و«المسافة صفر»    "ذكرها صراحة أكثر من 30 مرة".. المفتي يتحدث عن تشريف مصر في القرآن (فيديو)    الأوقاف تعلن أسماء القراء المشاركين في الختمة المرتلة بمسجد السيدة زينب    إصابة 6 أشخاص في انقلاب سرفيس على صحراوي قنا    وكيل وزارة الصحة بأسيوط يفاجئ المستشفيات متابعاً حالات المرضى    مجلس أمناء العربي للثقافة الرياضية يجتمع بالدوحة لمناقشة خطة 2025    ميار شريف تضرب موعدًا مع المصنفة الرابعة عالميًا في بطولة مدريد للتنس    استمرار فعاليات البطولة العربية العسكرية للفروسية    إقبال كثيف على انتخابات أطباء الأسنان في الشرقية (صور)    مواعيد الصلاة في التوقيت الصيفي بالقاهرة والمحافظات.. وكيف يتم تغيير الساعة على الموبايل؟    يحيى الفخراني: «لولا أشرف عبدالغفور ماكنتش هكمل في الفن» (فيديو)    أسبوع الآلام.. الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تحتفل بختام الصوم الكبير 2024    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    «أرض الفيروز» تستقبل قافلة دعوية مشتركة من «الأزهر والأوقاف والإفتاء»    استقالة متحدثة أمريكية اعتراضًا على حرب إسرائيل في قطاع غزة    طائرة مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة في البقاع الغربي شرقي لبنان    الأمم المتحدة للحق في الصحة: ما يحدث بغزة مأساة غير مسبوقة    بداية من الغد.. «حياة كريمة» تعلن عن أماكن تواجد القوافل الطبية في 7 محافظات جديدة    بعد حادث شبرا الخيمة.. كيف أصبح الدارك ويب السوق المفتوح لأبشع الجرائم؟    وزير التعليم العالي يهنئ الفائزين في مُسابقة أفضل مقرر إلكتروني على منصة «Thinqi»    فعاليات وأنشطة ثقافية وفنية متنوعة بقصور الثقافة بشمال سيناء    25 مليون جنيه.. الداخلية توجه ضربة جديدة لتجار الدولار    «مسجل خطر» أطلق النار عليهما.. نقيب المحامين ينعى شهيدا المحاماة بأسيوط (تفاصيل)    سكاي: سن محمد صلاح قد يكون عائقًا أمام انتقاله للدوري السعودي    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    نجاح مستشفى التأمين ببني سويف في تركيب مسمار تليسكوبى لطفل مصاب بالعظام الزجاجية    موعد اجتماع البنك المركزي المقبل.. 23 مايو    طرق بسيطة للاحتفال بيوم شم النسيم 2024.. «استمتعي مع أسرتك»    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 26 أبريل 2024.. «الحوت» يحصل علي مكافأة وأخبار جيدة ل«الجدي»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حوارات هيكل (الجزء الثامن عشر)
نشر في الشروق الجديد يوم 24 - 04 - 2010

لم يشأ عام القلق كما سميته أن يرحل إلا وقد أصابتنا صدمتان، إحداهما فى الربيع، والآخر فى الخريف. الصدمة الأولى وقعت فى 9 مارس سنة 1969، وبها تحول عام القلق إلى «عام الفزع» على حد تعبير الملكة إليزابيث ملكة انجلترا،فهذا اليوم (9 مارس) الذى استشهد فيه الفريق عبدالمنعم رياض، وهو الرجل الذى يملك الكفاءة، وكانت لديه الرؤية والتكليف أن يخوض معركة عبور القوات المسلحة المصرية فى الحرب عندما يجىء الموعد.
وكانت فى اعتقادى صدمة كبيرة جدا ففى ذلك اليوم كانت المرحلة الثالثة من حرب الاستنزاف، وكنت قد تحدثت عن المراحل الأربع لحرب الاستنزاف قبل ذلك وكانت هناك معركة على الجبهة وضرب فى العمق لغارات قامت بها إسرائيل لتتخلص مما بدا تفوقا ملحوظا ومؤثرا على الجبهة وهناك معركة دبلوماسية فى الخارج والمعركة السياسية الداخلية.
معركة ميدان القتال كانت هى المستحوذة على كل اهتمام الناس فى واقع الأمر وهى المعركة التى لها الأولوية، وفى يوم 8 مارس كانت المرحلة الثالثة من العمل المصرى وكانت هناك عملية كبرى تضمنت ضرب المدفعية مع عبور دوريات وأظن أنها كانت ناجحة، وهنا أتحدث عن درجة محدودية القتال، فالإشارة الملتقطة باللاسلكى بعد حل شفراتها يفيد أن قائد مدرعة إسرائيلى أبلغ عن 27 قتيلا فى وحدته وأبلغ كذلك عن عشرات الإصابات، وعندما تلقى عبدالمنعم رياض هذه البلاغات قرر الذهاب لميدان القتال فى اليوم التالى لأسباب لا أعلمها، وبدا لى أن عبدالمنعم رياض أراد نتائج أكثر من ذلك فقرر الذهاب بنفسه ليرى المواقع وآثار الضرب، ويسمع التقارير ويرى العملية بنفسه.
وكان رياض من القادة الذين يفضلون الوجود باستمرار بين جنودهم، ورغم أنه كان رئيس هيئة أركان حرب وليس مطلوبا منه أن يذهب كل يوم إلى الجبهة، إلا أنه كان حريصا على أن تشعر قواته بوجوده، وذهب ظهر ذلك اليوم إلى الجبهة وراح يتفقد بعض المواقع، وقيل إنه تحدث مع الضباط حول نقطة مهمة وهى أن الإسرائيليين يضربون عشوائيا لأن أى ضربة تصيب أهدافا مدنية أو عسكرية، وأننا نحتاج لدقة تصويب أكثر لأن العدو أمامنا، ولأنه هنا يضرب جامعا أو قواتا أو مصنعا وحيثما يضرب يصيب هدفا، وحدثهم عن دقة التصويب والنتائج لأنه لم يكن راضيا عنها.
كما أراد الاطمئنان على دورية المدفعية التى كانت خلف خطوط العدو، وأثناء وجوده على خطوط الجبهة، قال له أحد الضباط «ألا تريد أن تلقى نظرة على وحدتنا، فوافق رياض كما روى لى، وكان تعليم عبدالمنعم رياض أجنبيا وفى إنجلترا، فقال بالإنجليزية إنه «يوافق بكل الوسائل»، وفى هذا الموقع بالتحديد سقط صاروخ وأظنه لم يكن مصوبا عليه، ليستشهد عبدالمنعم رياض فى نفس اللحظة.
جاءت البلاغات للقاهرة بإصابة عبدالمنعم رياض واستشهاده ولم يصدق أحد الخبر لكن أكده أناس من الجبهة، وكان معه اللواء عبدالتواب هديب واللواء عدلى سعيد وأحدهما تعرض لإصابات طفيفة، وأدى تفريغ الهواء لاختناق فى الرئة ليستشهد رياض فى لحظات. وأرسل اللواء عدلى سعيد بلاغا للرئاسة يفيد باستشهاد عبدالمنعم رياض وكان هناك اجتماع فقال الفريق فوزى إن إعلان خبر استشهاد عبدالمنعم رياض قد يكون مصدرا لسعادة العدو لأنهم أصابوا قائد أركان الحرب، واقترح الفريق فوزى أن يقال إن عبدالمنعم رياض راح ضحية حادث.
ولكن كان رأى عبدالناصر مخالفا وقال إن عبدالمنعم رياض يستحق كل التقدير، وليشمت الإسرائيليون كما يريدون لكن عبدالمنعم رياض، كان قد استشهد فمما يشرفه ويشرف القوات أنه اسشتهد فى ميدان القتال وأى كلام عن حادث سير لا بد من استبعاده».
وعندما بلغنى شخصيا خبر وفاته لم أكن لأصدق فقد كنت قريبا منه جيدا وكان عبدالناصر يعتبره قائدا للمعركة المقبلة، وكان الفريق فوزى وضع للتنظيم ورياض الخطة وقيادتها، وكان قد وضع الخطة أو الخطط الأولى على أى حال وهيكلها الرئيسى.
وكنت أعتبر أن عبدالمنعم رياض بالفعل مؤهل وأنا كصحفى لدى فكرة عن ميدان الحرب وقابلت عددا كبيرا من القوات، وأنا كنت أرى أنه بالفعل مهيئا لأن يقود الحرب ولأسباب مختلفة عن التى كان يراها عبدالناصر، ولما بلغنى النبأ وكنت أتابع ما يقوم به، وتصوراته فى الخطة المقبلة وكان حالى فى ذلك الوقت مشابها لبيت الشعر الذى قاله المتنبى: «طوت الجزيرة حتى جاءنى نبأ.. فزعت لآمالى إلى الكذب».
ولم يكن أحد ليصدق أن عبدالمنعم رياض رحل بهذه البساطة وبهذه السرعة، وينشغل معظم العسكريين دائما بالتنظيم والقتال وفى المجال التكتيكى، وقليل من يكون لديهم تصور إستراتيجى، فالثقافة المتعددة الجوانب التى تسمح له برؤية الحرب فى مجال الصراع الإنسانى، تختلف عن كونها اشتباكات صغيرة أو صراع دبابات وكان لديه (رياض) الرؤية التاريخية للحرب.
أول مرة رأيت فيها عبدالمنعم رياض كانت فى نوفمبر سنة 1957، وكان الرئيس عبدالناصر مدعوا للمشاركة فى الاحتفال بالذكرى الأربعين للثورة الشيوعية فى موسكو، لكن بعض الأسباب حالت دون ذلك ومن بينها انشغاله بقناة السويس، الشىء الآخر أنه كان هناك تجمع عربى فى السعودية وكانت مشاركة عبدالناصر فى احتفالات الثورة الشيوعية تضايق من هو ضد الاتحاد السوفييتى، وذهب عبدالحكيم عامر بدلا من عبدالناصر، وقبل الرحلة بيومين طلب الرئيس أن أذهب مع الوفد يوم 7 نوفمبر، لأنه كان يريد منى نظرة سياسية وأن أقول هناك ما الذى حدث لأنه فى ذلك الوقت كانت هناك تغيرات كبيرة فى الاتحاد السوفييتى، وكان خروشوف وبولجنين بدا يظهرا على القمة وبدا هناك وضع آخر للاتحاد السوفييتى،وعرف أن ماوس تونج سيذهب ليحضر الاحتفالات، رغبة منه لرأب الصدع الصينى مع الاتحاد السوفييتى، وبالتالى أصبح اجتماعا مهما، إضافة إلى أن الكثيرين من العالم أيضا سيحضرون، وكان وقتها دور الاتحاد السوفييتى كبيرا فى العالم خاصة فى أفريقيا وآسيا، وبين قدراته التكنولوجية خاصة فى الصواريخ وإطلاق سوبتنك إلى آخره.
طلب منى عبدالناصر أن أذهب مشيرا إلى أن العسكريين لا يعرفون التحدث جيدا وكان يقصد عبدالحكيم عامر بالتحديد.
وأول مرة قابلت فيها عبدالمنعم رياض كان فى 7 نوفمبر 1957 فى الطائرة، ولم يلفت رياض نظرى، وعند الوصول فضلت أن أكون بعيدا عن الوفد لأنه كان هناك تدافع على غرف الفندق وكان معنا رجل ينظم الوفد هو الضابط سيرجو تشفرلسكى، فذهبت له وطلبت أن يساعدنى لأجد فندقا آخر غير فندق أوكراينا وهو من المبانى السبعة الشهيرة التى بناها ستالين لتكون رمزا لما تصوره من عظمة الاتحاد السوفييتى الثقافية، وكان (المبنى) ضخما للغاية وعلى مساحة واسعة، ورفضت النزول فيه وطلبت من تشفرلسكى أن أنزل فى فندق آخر فقال لى إن هذا غير ممكن وأن هذا الفندق مخصص وأن الوفد العسكرى سيجلس فيه فقلت له أننى غير عسكرى وأننى لم آت مع الوفد بشكل رسمى ووجدت وقتها ضابطا واقفا بالخلف يريد تشفلسكى، فقال لى عبدالمنعم رياض أن لا أضيع وقتى معه لأن الترتيبات صارمة ولن أستطيع أن أخرج.
وفى ليلة نفس اليوم فى مبنى وزارة الدفاع نظم عشاء للوفد المصرى العسكرى وكانوا راغبين فى إكرامه وكان نجوم الحرب كلهم موجودون، وأتذكر ما كنت أقرأه عن الجبهة الروسية فى الحرب العالمية الثانية وأجد الأساطير مارشال كوينشكو ومارشال كونييف الذى قاد الدبابات إلى برلين مباشرة وأيضا كوسوفسكى وكل مارشالات الاتحاد السوفييتى الذين نسمع عنهم فى القصص، وكان بجوارى مارشال رانديكو قائد القوات الجوية لكن وجدت عبدالمنعم رياض فى الناحية الأخرى من نفس المائدة وحدث إشكال بينى وبين روندكو لأننى حاولت أن «أتشاطر» عليه أكثر من اللازم، وكان يشرب الفوديكا فى كأس وطلب منى الشرب فاعتذرت ولم يكن يتحدث لغة أفهمها ولا أنا أتحدث الروسية، وبعد ذلك «تشاطرت» عليه وكنت أشرب ماء فى كأسى وفى المرة الثالثة أمسك يدى وقال «الضيف الذى بجوارى يغش» ثم تحدث معه عبدالمنعم رياض قليلا ثم تأسف المرشال لى بعد ذلك.
وبعد العشاء طلبت من عبدالمنعم رياض أن يحكى لى ماذا حدث فقال لى؟ إنه شرح له ما الذى يمنعنى واكتشفت أن عبدالمنعم رياض يتحدث الروسية بطلاقة بجوار اللغة الإنجليزية التى تعلمها فى مدرسة العسكرية «بلاركل» لثلاثة سنوات وذهب إلى كلية فونزى بعد السويس مباشرة وبدا يدرس فيها وبدا يتعلم اللغة الروسية. وفى اليوم الثانى كانت هناك راقصة بالية شهيرة جدا هى إرى نيلوفا وهى أسطورة عالم الباليه وكانت ستؤدى رقصة وداعية على مسرح البلشواى وجلب لنا مكتب الاتصال العسكرى تذاكر قليلة، لكن كان هناك على أى حال، خيارا بين الذهاب للمسرح وكباريه شهر زاد، وأخذت تذكرة لأشاهد إريدا إرينوفا وإذا أجد بجوارى فى المسرح عبدالمنعم رياض، فقلت له لم أكن أتصور أن ضابط جيش يهتم بمشاهدة إريدا إرينوفا فقال لى كلمة معبرة جدا، «أنكم تضعون الناس فى قوالب، فما الخطأ أن يجلس ضابط جيش ويشاهد البالية ويقدر من هى إريدا إرينوفا» فاعتذرت له.
وعدنا إلى الفندق بعد انتهاء العرض وتحدثنا عن الاتحاد السوفييتى ووجدته يقول لى تحليلا دقيقا لتناقضات المجتمع السوفييتى ولأسباب قوته، قال لى «نحن رأينا صورة للباليه وأنا سأخذك لترى صورتين» وذهبنا إلى شارع جوركيه والذى فيه الفنانون والرسامون، ثم ذهبنا لمحطة سكة حديد كييف وطلب منى الجلوس وأن ننظر إلى الناس وقال لى «إذا أردت أن تعرف حالة الشعب تذهب لمحطة سكة حديد» واستغربت ووجدت خطوط تفكيره. ثم تحدثنا عن إسرائيل والصراع العربى الإسرائيلى وأظن أننى أجد واحدا من أوضح الناس فكرا فى تصور إسرائيل ووجدت الخطوط الإستراتيجية فى تفكيره. وقال لى الحرب فى سيناء وحدها ولكى نصل لموقعها على الحدود أمامنا مسافات طويلة جدا والوصول إليها فى منتهى الصعوبة، وأن هذه القوات عندما تندفع سيبقى أمامها مسافة مكشوفة إما شمال غزة وإما شمال بيت لحم والخليل. وأنه اذا أردنا أن نقوم بمعركة حقيقية مع إسرائيل فلا بد من جبهة شرقية مع إسرائيل، والسويس تشعرنا بأهمية هذه الجبهة ويقول لى عن الحرب المقبلة «الصحراء مكشوفة أمام قواتنا والفراغ موجود إلى درجة الوصول لأهداف يمكن التمسك بها، ومع تفوق الطيران الإسرائيلى ستبقى خطرة للغاية، وهذا الأمر يتطلب أن يكون الجيش المصرى قادرا على عبور هذه المسافات بسرعة خاطفة وسريعة».
كان وقتها عبدالمنعم رياض عميدا ولم يظهر لى كضابط يتذوق الباليه أو يتجول بشارع جوركى لكن فى نفس الوقت يذهب لمحطة كييف وينظر للشعب العادى ويدرك تناقضات الاتحاد السوفييتى، وهو ليس رجلا تعلم فقط فى إنجلترا وبدا يفهم دوره ولكن بدأ يقدر ويقول لى فى ذلك الوقت إن الطيران هى نقطة التفوق الإسرائيلى ونحن نستطيع التغلب على هذه النقطة وأننا يصعب علينا اللحاق بهم ولكن من الممكن أن نلغى أثره بالصواريخ وأن الصواريخ هى سلاح المستقبل وهى شكل الحرب المقبلة وأن هذا هو أملنا فى الحرب المقبلة ضد إسرائيل، فوجدت أمامى ضابطا لديه ثقافة وفكر وكان لديه هاجس باستمرار الإسرائيليين.
ويوم استشهاد عبدالمنعم رياض كان الإسرائيليون يتابعون هذا الاستشهاد وأظنهم كانوا يتحسبون منه وأظنهم كانوا يخفون شماتتهم منه يوم رحيله، ولكن نجد برقية من السفير الأمريكى المقيم بالقاهرة فى ذلك الوقت يقول فيها إن سفيرهم فى إسرائيل ريتشارد باركر سمع الجنرال ديان يسأل «هل يا ترى عبدالمنعم رياض وكل ما له من شعبية من الشعب المصرى، إذا يأس من إمكانية معركة هل يمكن أن يقود انقلابا ويجمع البلد حوله ويقوده ضد جمال عبدالناصر؟» أظن أن ديان كان متفائلا لأن العلاقة بين الاثنين كانت قوية للغاية.
ومن أجمل ما قيل فى وفاة عبدالمنعم رياض شعر كتبه نزار قبانى وكان ممنوعا وقتها من دخول مصر بسبب قصيدة كتبها، وقال نزار فى رياض.
لو يقتلون مثلما قتلت
لو يعرفون أن يموتوا مثلما فعلت
لو مدمنو الكلام فى بلادنا يبذلوا مثل ما بذلت
يا أشرف القتلى، على أجفالنا أزهرت
الخطوة الأولى إلى تحريرنا أنت بها بدأت
يا أيها الغارق فى دمائه جميعهم قد كذبوا.. وأنت صدقت
جميعهم قد هزموا ووحدك انتصرت
وتحدثت مع عبدالناصر بعد عودتى من الاتحاد السوفييتى عن كل ما جرى وتحدثت مع عبدالحكيم ومن ضمن ما قلت له أننى رأيت ضابطا من نوع مختلف (عبدالمنعم رياض)، وبدأ يحكى لى عنه وأسمع منه أن عبدالمنعم رياض قضية أخرى. ولما جاء وقت مؤتمرات القمة سنة 1963 ووقتها قامت إسرائيل بعمليات تحويل مياه الأردن، فإذا بعبدالناصر يرشح عبدالمنعم رياض رئيسا لأركان حرب القيادة العربية الموحدة والقائد على عامر، وتحدث عبدالمنعم رياض على أهمية الجبهة الشرقية وأنها مقتل إسرائيل وقال أنه ليس مصادفة أن اسرائيل موجهة كل الجهد إلى الأردن وأن نشاطها المخبراتى مركز فى الأردن بشكل واضح ثم بدأ عبدالمنعم رياض بالتنقل بين العواصم العربية ويذهب إلى كل الجبهات العربية وهنا يوجد قائد مرموق ومتميز ومختلف وكل المهام تتسق مع فهمه وكلف بمهام جزء كبير جدا عن الجبهة الشرقية.
وفى أزمة مايو 1964 بدأت الأزمة فى الكبر وسمعت أن عبدالمنعم رياض يريد الحضور ويتابع الجبهة بنفسه وبعد تعقد الأزمة، وجدته عند محمود رياض، وزير الخارجية، فى وسط الأزمة، وكان متجهما أكثر من العادة، فقال لى (محمود ) أن عبدالمنعم رياض قام بشىء صعب، وقرر العبور مع إحدى الدوريات الداخلة لكى ترى ما الموجود فى الخلف وهو رئيس أركان حرب القيادة الموحدة، وكان محمود رياض قلق لدخول عبدالمنعم رياض ووصوله بعيدا فى منطقة العوجة ولمدة يومين يوجد عبدالمنعم رياض، ولما أخبرنى محمود رياض، وأعلنت إسرائيل أنهم ألقوا القبض على دورية مصرية واعلنوا اسماء عساكر وضباط لم يكن هو منهم، وفى اليوم التالى فجرا عاد عبدالمنعم رياض.
فقلت له لا أحد يفعل ما تفعله ولقد حبست زمنا فقال لى تعيش وتاخد غيرها، فهو ضابط مقتنع بأن الوجود مع القوات بالغ الأهمية، وحتى بعد ما جاء عبدالحكيم عامر والنكسة وبدأ الإعداد لعملية العبور بدا أن يكون باستمرار فى كلامه أن القوات اذا لم تشعر بأن قائدها معها فلا فائدة، وهو يذكرنى بطريقته المندفعة بروميل القائد الألمانى الشهير وكان هناك تشابه بينهما، وكان جمال عبدالناصر سنة 1968 شعر بتعب ما وكان رياض بجوار فراشه ووقتها طلب السادات بأن يقوم الأطباء بالكشف عليه ومنهم الدكتور شازوف وكان وزير الصحة وأكبر الأطباء المشهود لهم فى الاتحاد السوفييتى، ورأيت عبدالمنعم رياض وقتها يتحدث مع عبدالناصر عن صحته فقال له إنه يريد أن يقول له شيئا، خاصة أن رياض كان يشارك فى اجتماعات حول الأسلحة والطيران السوفييتى، ولكن رياض كان يتحدث عن خطة «الجرانيت» التى وضعها تقريبا قبل الاستشهاد وكانت تتضمن العبور تحت غطاء الصواريخ، وفى إعمال الصواريخ وبالتالى هناك تصور واضح. وبعد العودة كنت أقابله كثيرا وكنا نعلق عليه آمالا كبيرة ونجده «مرة واحدة أتخطف» فى سنة القلق، والتى بدت برحيله سنة الفزع.
صدمة أخرى أخذناها هذه السنة، ففى يوم 9 سبتمبر كلمنى محمد أحمد سكرتير الرئيس قال لى إننى مطلوب بسرعة وذهبت، ووجدت أحدا هناك يوجهنى على مكتب سامى شرف، ووقتها كنت أتابع تحركات عبدالناصر فى الجبهة وكأنه يحاول تعويض غياب رياض وتقريبا أن هاجسه فى ورقه وهو لم يكن يكتب كلمة العبور فى ورق أنه فى أول مرة تحدث عن القوات ويكتب كلمة العبور وضرورة سحبها من الميدان لتحصل على تدريب خاص لمدة أربعة أشهر، وهناك ملامح خطة وعمل من المفترض القيام به. وعندما دخلت لمكتب سامى شرف لم أكن أتخيل وجود شىء متعلق بصحة جمال عبدالناصر وأنا أعرف أن لديه مشاكل الصحية منها السكر بعد 58 ثم عانى من التهابات فى القدم ونصحه الأطباء بأن يتعالج بمنتجع بالاتحاد السوفيتى وبالفعل ذهب وعاد وكنا نتصور أن المسائل انتهت.
وخلال فترة علاج عبدالناصر كنا مهتمين وننشر باستمرار ولم يكن فيها سر، وكنا نتصور بعد عودته أن المسائل انتهت وتحت السيطرة، دخلت غرفة سامى شرف ووجدت سامى، وأنور السادات والفريق فوزى وشعراوى جمعة، وجاء بعدى أمين هويدى، وقال لنا أنور السادات إن الرئيس أمر بتشكيل لجنة تتولى إصدار مهام الدولة فى فترة غيابه لأنه لديه إنفلونزا وسيبتعد لعدة أيام، فلم أصدق هذا الكلام لأننى لم أدخل هذه اللجنة لأنى غير رسمى ولا علاقة لى بشىء.
وبعد قليل تحدث السادات مع عبدالناصر وقال لى سنذهب لنراه حتى تطمئن يا محمد وعندما صعدنا لغرفة نوم عبدالناصر كان جالسا، فلم أصدق شيئا، فقال له عبدالناصر «ما حدث أننى أصبت بنوبة قلبية»، وتدخل السادات وقال «لا يجب أن نعتمد على هذا الكلام ويجب أن نرسل للدكتور جورزوف»، وقال لى (ناصر) أنه يريدنى أن انضم لأقول لهم كيف يمكن أن يفكر فى موضوع معين، ولم يكن هذا الموضوع مطمئن وكان فى ذهنى صدمة رياض فى أول السنة وفى ذهنى رؤية عبدالناصر وجهده غير الطبيعى، وكان يعرف بالخطط الأولى والتى سميت بالجرانيت وكان فى ذهنى أن البلد فى حرب والقائد المعد للحرب اختفى وها هو القائد السياسى الذى يقود المعركة، يصاب بنوبة قلبية فقال لى «أنا لا أريد أن تقلق». وكان يريد أن يسأل جوزوف «هل أنا صالح وقادر على القيام بمهام عملى؟»، وقال إنه يثق فى الأطباء المصريين الذين اعطوه أدوية، ويريد رأى جازوف كمحايد ليريد على سؤاله.
وعندما رآه جازوف بعد أن ذهب للكشف على عبدالناصر بطائرة خاصة وكنت متخوفا، حيث فقدنا القائد العسكرى والآن القائد السياسى يترك موقعه لأسباب صحية ثم إلى أين؟، وفى هذه اللحظات كنت أعتقد ان أنور السادات دعا إلى اجتماع هذه اللجنة لكى تبحث فى موضوع «كيف يمكن أن يغطى غياب عبدالناصر لعدة أيام؟»، فقلت له يجب أن نعرف ما الموضوع أولا، فإذا كان الأمر سهلا فيمكن تغطيتها أما إذا كان جمال عبدالناصر لم يعد قادرا على ممارسة مهام والتى هى فى منتهى الصعوبة أظن أنه من الأفضل أن نعرف حقيقة هذه الوعكة، فكل حالة من هذه الحالات تقتضى مقاربة من الناس، وأظن أنه لم يعارضنى أحد فى هذا الموضوع.
وكان هناك جدول أعمال وقضايا للبت فيها ولكن أظن أن المسائل كان فيها أمر عاجل. وكانت القوات موجودة تؤدى دورها مع الفريق فوزى، وكان عبدالناصر يقوم بمهام رئيس الوزراء أيضا ونواب رئيس الوزراء كانوا يعملون، ولم يكن أمامنا سوى الانتظار لمعرفة ما سيقوله جازوف.
وقال له عبدالناصر: أنا لا أريد أن أكون جنديا هاربا لكن لا أريد ان أبقى فى موقع قد لا أكون صالحا للبقاء فيه وصحتى لا تساعدنى على اتخاذ القرار الصحيح، واريد منك أن تقول لى بكل أمانة وصدق إلى أى مدة يمكن أن تؤثر صحتى على علمى وسلامة قرارتى؟ وطلب جازوف تحليلا وطلب كل شىء وبعد صباح اليوم التالى ذهب الطبيب إلى جمال عبدالناصر، وقال لنا إن الطبيب أعطاه شهادة بأنه قادر وأن صحته لا تؤثر على سلامة قرارته،وهم لم يكن يتصور أن يهرب جندى من المواجهة بهذا الشكل، وابتعاده فى هذا الوقت عن صنع القرار فى لحظة الأمة كلها تتطلع إليه، وكانت العمليات قادمة وبالتقدير على أول سنة 1971 آخر الربيع.
وكانت هناك فرق مخصصة للعبور وأنا شخصيا نزلت وكنت مع شوزوف الذى كان مع الأطباء وسألته عن الرئيس فقال لى إنه لا يستطيع إخباري بالتفاصيل ولكنه يريد أن يقول إن مجرد سؤاله فى هذه اللحظة «ما اذا كنت قادرا على أداء مهمتى»، يظهر أنه قادر على مهمته وأنه مستعد لها، وأعتقد أن عنصر الإرادة عنه سيعوض أشياء كثيرة. وبدا هاجس صحة عبدالناصر يقلقنى..
----
اقرأ أيضا
حوارات هيكل (الجزء الأول)
حوارات هيكل (الجزء الثاني)
حوارات هيكل (الجزء الثالث)
حوارات هيكل (الجزء الرابع)
حوارات هيكل (الجزء الخامس)
حوارات هيكل (الجزء السادس)
حوارات هيكل (الجزء السابع)
حوارات هيكل (الجزء الثامن)
حوارات هيكل (الجزء التاسع)
حوارات هيكل (الجزء العاشر)
حوارات هيكل (الجزء الحادي عشر)
حوارات هيكل ( الجزء الثاني عشر)
حوارات هيكل ( الجزء الثالث عشر)
حوارات هيكل (الجزء الرابع عشر)
حوارات هيكل (الجزء الخامس عشر)
حوارات هيكل (الجزء السادس عشر)
حوارات هيكل ( الجزء السابع عشر)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.