نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب محمود الذوّادى، تناول فيه مظاهر هَجر الأغلبية من الشعب التونسى للغة العربية داخل حدود وطنهم الأم، كما يرى الكاتب أن السبب فى هذا الهجر هو عدم تدريس المواد التعليمية فى مراحل الدراسة قبل الجامعى باللغة العربية، وتشجيع بعض الأمهات التونسيات أطفالهن على التحدث باللغة الأجنبية. يشير الكاتب إلى أن تطبيق دراسة المناهج التعليمية باللغة العربية فى المراحل الابتدائية والاعدادية والثانوية يضمن التصدى لهذا الهجر اللغوى... نعرض من المقال ما يلى. يكثر الحديث عن أسباب كارثة هجرة التونسيين والتونسيات أرض الوطن، وبخاصة إلى أوروبا. لا يكاد يُذكر عامل اللغة كمشجّع كبير على الهجرة؛ إذ إن معرفة لغات الآخرين تُحفّز الناس على الهجرة إلى بلدان تلك اللغات، وتعلّم اللغات هو تأشيرة خضراء تسهّل الحياة والاندماج فى مجتمعات الهجرة. تلك معطيات ذات صدقية عالية بالنسبة إلى دور معرفة اللغات والرغبة فى الهجرة. مّا يزيد فى التشجيع على الهجرة هو هجرة المواطنين للغاتهم فى بلدانهم، فى الحديث والكتابة، كما تشهد لاحقا على ذلك السلوكيات اللغوية فى المجتمع التونسى. هذا فضلا عن العلاقة الوثيقة بين اللغات وهويات الشعوب، كما يتجلى ذلك فى عدم هجرة المجتمعات الأوروبية ومقاطعة كيباك فى كندا، والأكراد فى العراق، للُغاتها. وفى المقابل، فهجرة كثير من التونسيات والتونسيين للغة العربية فى الحديث والكتابة، لا بد أن تكون لها آثار قوية على ارتباك هويتهم العربية. هجرة اللغة العربية فى المجتمع التونسى 1 تتعامل جل البنوك التونسية مع زبائنها التونسيين بالفرنسية كتابيا حتى يومنا هذا. 2 لا يكاد يستعمل التونسيات والتونسيون إلا اللغة الفرنسية فى الحديث عن أرقام الأشياء. 3 نظمت النساء الديمقراطيات لقاء فى 28 يناير 2012 فى «بيت الحكمة» ليتحدث فيه بعض النساء المثقفات فى العلوم الإنسانية والاجتماعية عن وضع المرأة فى المنطقة العربية الإسلامية. وقد اختارت جميع المتحدثات الفرنسية فى القيام بمداخلاتهن، على الرغم من أن مكانة المرأة فى القرآن، والحديث، ولدى الفقهاء، كانت الموضوع الرئيس. فتلك السلوكيات اللغوية هى فى المقام الأول نتيجة لنمط التعليم فى المجتمع التونسى الذى لا يتبنى نظام ما سميته أعلاه الحَجر اللغوى الذى يدرّس جميع المواد باللغة الوطنية فقط، حتى نهاية التعليم الثانوى على الأقل. لا يكاد يتحدث أحد فى المجتمع التونسى عن المضار التى تتعرض لها علاقة الأطفال التونسيين باللغة العربية فى الروضات. فعِلم النّفس يؤكّد أن السنّ المبكرة هى المرحلة المثالية التى يكسب فيها الطفل علاقة سليمة وحميمة مع لغته، إذا لم يتدخل تعلم لغات أخرى فى ذلك العمر المبكر فتفسد العلاقة الطبيعية السوية مع اللغة الوطنية لدى هؤلاء الأطفال الذين سيحملون هذا العبء معهم إلى سن الكهولة وما بعدها حتى الشيخوخة. ومما يزيد الطين بلة، أن جل النساء المُدرِّسات فى الروضات يَمِلْن إلى جذب الأطفال أكثر إلى تعلّم اللغتين الفرنسية والإنجليزية، وذلك بتقمصهن ضمنيا أو جهارا لسلوكيات يتعلم منها الأطفال أن هاتَين اللغتين أفضل من العربية. حماية الحجْر اللغوى من هجر العربية فالسؤال المشروع هنا: لماذا توجد وتستمرّ ظاهرة التلوّث اللغوى لدى القمة والقاعدة وما بينهما؟ نجيب عن السؤال بطرْح فكرة أو مفهوم أو نظرية تكاد لا تخطر على بال الخاصة، ناهينا بالعامّة. تفيد الملاحظات بوجود تشابه بين الإجراءات الصحية الشديدة ضد تفشى فيروس جائحة الكورونا والإجراءات اللغوية المتمثلة فى استعمال اللغة الوطنية فقط فى التدريس فى المراحل الثلاث للتعليم: الابتدائية والإعدادية والثانوية. يتمثل هذا التشابه فى أن كلّا منهما يؤدى بِمن يلتزم بالكامل بتلك الإجراءات إلى حظ أكبر فى تحاشى الإصابة بفيروس الكورونا، وتحاشى تفشى التلوث اللغوى فى الحديث والكتابة واحترام اللغة الوطنية أكثر من غيرها. لقد تبنى نظام التعليم فى المدارس التونسية نمطين فى لغة التدريس: 1 التدريس بلغتين هما العربية والفرنسية كلغة أجنبية استعمارية فى مراحل التعليم الثلاث المذكورة. 2 التدريس بلغة واحدة فقط هى اللغة العربية فى تلك المراحل الثلاث. نكتفى بذكر مثالَين على حضور أو غياب الحجر اللغوى فى المجتمع التونسى بعد الاستقلال: 1 إن خريجى التعليم التونسى فى ما سمى «شعبة أ» فى مطلع الاستقلال فى المجتمع التونسى مثال للآثار الإيجابية للحجر اللغوى على العلاقة مع اللغة العربية. لقد دَرس هؤلاء الخريجون من تلك الشعبة مختلف المواد باللغة العربية فقط، من المرحلة الابتدائية حتى السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية. 2 أما خريجو باقى نظام التعليم التونسى، وهم اليوم أغلبية المتعلمين التونسيين، فهم فاقدون للحجر اللغوى، أى أنهم درسوا فى الماضى أو يدرسون فى الحاضر باللغة الفرنسية فقط، ابتداء من المرحلة الثانوية، ما يسمى بالمواد العلمية مثل الرياضيات والفيزياء والعلوم الطبيعية. إذن، فالتكوين اللغوى لهذين الصنفين من نظام لغة التدريس هو العامل الحاسم الذى أدى إلى الفرق بينهما فى هجرة اللغة العربية أو احتضانها. فمن ناحية، يدافع خريجو تعليم شعبة (أ) ونظام التعليم الزيتونى بشدة عن حق المُجتمع التونسى فى استعمال لغته العربية وعدم السماح للغات الأجنبية بمنافستها على أرضها. ومن ناحية ثانية، يتصف المتعلمون التونسيون الفاقدون لنظام تعليم الحجر اللغوى بموقف مُتذبْذب نحو منافسة اللغة الفرنسية للغة العربية فى المجتمع التونسى. وبالتالى، فهم يكادون لا يؤمنون ويتصرفون لمصلحة حق المجتمع التونسى الكامل فى استعمال لغته الوطنية فقط فى جميع شئونه على أرضه. تكشف الموضوعية أن تعلّم اللغة الفرنسية والتدريس بها (غياب الحجر اللغوى) فى عهدى الاستعمار والاستقلال، يمثل اغتصابا لغويا يَحرم اللغة العربية من حضورها كحقّ للسيادة الكاملة والتحرّر الحقيقى للمجتمع التونسى. ومن ثم، يتضح أن هَجر المجتمع التونسى لحقه فى استعمال لغته فقط فى الحديث والكتابة هو حصيلة لهجرة مزدوجة: داخلية وخارجية تقودهما النخب التونسية المثقفة والسياسية الفاقدة فى معظمها للحجْر اللغوى الحامى لها من هَجْر لغتها الوطنية. النص الأصلى