السؤال على غرابته وارد، ويجرى ترديده فى الأوساط السياسية العربية بحدوده القصوى التى تصل أحيانا إلى وضع إيران إلى جانب إسرائيل على نفس المستوى من العداء للدول العربية. ويرجع ذلك ليس فقط لاتصال الموضوع بمخاوف هذه الدول من الممارسات الإيرانية تدخلا واحتلالا وتهديدا نوويا، أو لمساسه بتناقضات وحساسيات الوضع العربى الذى يعجز عن الوقوف موقف الندية من التواجد الإيرانى فى المنطقة، أو لارتباطه بالسياسة الأمريكية الرامية لوضع هدف احتواء إيران على قائمة أولوياتها فى المنطقة، وحرصها على تقدير علاقاتها بدولها من زاوية مواقفها من هذا الهدف. وإنما يرجع أيضا لتركيز التقييم العربى للسياسات الإيرانية على الجوانب الأيديولوجية والمذهبية، والاستهانة بتأثير الجانب السياسى الذى يمثل حجر الزاوية فى هذه السياسات، ويعتبر الدافع الحقيقى وراء تحركاتها، حتى إذا غلفتها بحكم طبيعة نظامها بغطاء أيديولوجى أو قدمتها فى شكل يغلب عليه طابع الثبات والمبدئية. وكذلك فإن التعامل مع هذه العلاقة من منطلق الصداقة أو العداء يعتبر بمثابة حصرها فى حدود اللونين الأبيض والأسود، وهو الأمر الذى يمثل تبسيطا مخلا بطبيعتها، لأنها تتحرك فى المنطقة الرمادية السائدة عموما فى معظم العلاقات الدولية، ولأنها تتسم فى مجموعها بالتعقيد، والخصوصية الناتجة عن تباين الأهداف والمصالح والتحالفات التى تحكم حركة الأطراف فى هذه العلاقة، بالرغم من عمق الروابط التاريخية والثقافية والدينية التى تربط بينها. هذا فضلا عن أن إيران تعتبر ركيزة حضارية من ركائز المنطقة، وطرفا أساسيا فى تركيبتها السياسية والاجتماعية والأمنية، وهى لا تشكل كيانا وافدا عليها ينسب لنفسه تمثيل حضارة أجنبية عنها، ويملك مشروعا استيطانيا يستهدف تعميق تبعيتها للمصالح الغربية. وبالرغم من ذلك، فإن صورة إيران فى المنطقة قد أصابها كثير من التشوش وسوء الفهم، بفعل السياسات الأمريكية والدعايات الإسرائيلية، التى تتوافق على «شيطنة» الدور الإيرانى والمبالغة فى تقدير أبعاده الأيديولوجية والمذهبية، وإظهار نشاطه باعتباره أخطر على دول المنطقة من النشاط الإسرائيلى، والادعاء بأن إيران تملك مشروعا إمبراطوريا يرمى إلى الهيمنة على المنطقة. وذلك رغم استناد السياسة الأمريكية نفسها فى معارضة الدور الإيرانى إلى عوامل سياسية واقتصادية، واستخدام التجاوزات الطائفية والمذهبية بين الطرفين كأدوات يوظفها كل طرف لتحقيق أهداف خاصة، سواء لإثارة المخاوف العربية من الجانب الأمريكى أو للتدليل على قوة الموقف وانتشار النفوذ من الجانب الإيرانى. كما أن إيران لا تمتلك أدوات ووسائل تحقيق مشروع إمبراطورى فى المنطقة، خاصة فى ضوء استبعاد سماح الدول الكبرى لها بممارسة مثل هذا الدور فى منطقة بالغة الحساسية للاستراتيجية الغربية. فضلا عن أن تصاعد الدور الإيرانى قد جاء كمحصلة لأخطاء السياسات الأمريكية وسلبيات السياسات العربية، التى أحسنت إيران استثمارها ،ولكنها لا تعتبر نتاجا مباشرا لتخطيطها. ومن هنا يمكن القول إن نجاح إيران فى المنطقة يرجع أساسا إلى إجادة استعمال أوراقها من إمكانيات ذاتية وموقع جغرافى، واتباع أساليب مختلفة من التصلب والمرونة، واستثمار الخلافات بين أطراف الساحة الدولية لصالحها، مما مكنها من فرض إيقاعها على الصراع بشأن ملفها النووى. فضلا عن براعتها فى إدارة الأزمة بسياقها الإقليمى، وقدرتها على التفاهم أو الاختلاف مع الأطراف الدولية دون التشابك مع النظام الدولى. وهذا الوقت الذى تخلت فيه الدول العربية عن أدوراها فى المنطقة، وتنازلت عن نفوذها المكتسب تاريخيا على ساحتها، وأضعفت النظام العربى الذى يجسد إرادتها المشتركة ويُؤطّر حركتها الجماعية. وتجاهلت القضايا الاستراتيجية العربية مكتفية بالتحركات الجزئية تحقيقا لمصالح خاصة أو استجابة لمتطلبات أمريكية أو توجسا من نفوذ إيرانى. ومع ذلك فإن السياسة الإيرانية، المتعالية أحيانا والجامحة فى أحيان أخرى، يصعب تبرئتها من بعض الاتجاهات السلبية، والتصرفات الاستفزازية التى تثير عن حق قلق الدول العربية وتكثّف من مخاوفها، وتضعف من ثقتها فى النوايا الإيرانية وأهمها: التدخل فى القضايا الاستراتيجية العربية، ومحاولة التأثير فى مسارها لخدمة أهدافها فى تثبيت مركزية موقعها وثقل مكانتها فى المنطقة، وذلك باعتبار أنها تمثل عوامل القوة فى موقفها أمام الولاياتالمتحدةالأمريكية التى تسعى للحصول على اعترافها بالدور الإقليمى الإيرانى، والتوصل معها لصفقة متكاملة تشمل برنامجها النووى. الاستمرار فى محاولات ما يسمى بتصدير الثورة، وهو اتجاه أعيد إحياؤه فى عهد رئيس الجمهورية الحالى، ويأخذ أشكالا مختلفة منها الادعاء بتمثيل إيران للإسلام والمسلمين، وتصعيد جهود «التشييع» فى بعض الدول العربية السنية، ومحاولة اختراق حركات المقاومة العربية ودفعها فى اتجاه رفض الحلول السلمية أو نقل القضية الفلسطينية إلى الفضاء الإسلامى، ومخاطبة بعض شرائح من المجتمعات والطوائف العربية على غير رضى من أنظمتها، وتشجيع انقسام الصف العربى سواء بين محورى الاعتدال والممانعة، أو بين ما يسمى بالمشروعين الأمريكى والإيرانى. احتلالها للجزر الإماراتية الثلاث، وعزوفها عن الدخول فى مباحثات حولها، وعدم مبالاتها بالمخاوف الخليجية من نشاطاتها، وتعاليها عن تفهم مشاعر شعوب هذه المنطقة من تصرفاتها المستهينة بحساسياتها. حرص القيادة الإيرانية على التصرف باعتبارها المرجعية الطبيعية لشيعة المنطقة، وهى مرجعية عابرة للحدود تقلق الدول العربية، وتعمق الشكوك بين الأنظمة الحاكمة والتجمعات الشيعية فى بلادها. وذلك رغم الاعتراف بأن ممارسات بعض السياسات العربية الرسمية قد تسببت فى إثارة حساسيات هذه التجمعات وفشلت فى كسب ولائها روحيا وسياسيا فى الدول التى يعيشون فيها. أما على الجانب العربى فإن مواقف دول تجاه إيران تعانى فى المقابل من خلل بنيوى يتمثل فى عزوفها عن التوصل إلى سياسة منسقة لإدارة موقفها المشترك من العلاقات الإيرانية العربية، وعدم قدرتها على التحرك بإيقاع واحد تجاه الطرف الإيرانى وعجزها على الوقوف منه على نفس المسافة، إذ يدخل بعضها فى تحالف مع إيران، ويغلق بعضها الآخر ملف علاقاته معها، ويتخوف البعض الثالث من تصاعد نفوذها وتطوير برنامجها النووى، بينما يمتنع معظمها عن التحرك النشط للتعامل الجماعى معها ويفتقد لقدرة تقدير الظروف وفرز المواقف، اعتمادا على نهج مستقل عن وجهة النظر الغربية. وهو الأمر الذى أدى فى مجمله إلى إضعاف موقف الطرف العربى فى العلاقة، ودل على أن بعض السياسات العربية تفضل ترك الساحة للولايات المتحدة «لمواجهة» الطموحات الإيرانية وخاصة فى ضوء ثقتها فى التوجهات الأمريكية منها، على اطمئنانها للنوايا الإيرانية تجاهها. وبناء على المعطيات السابقة، وفى ضوء رسالة الرئيس أوباما الأخيرة إلى إيران التى أوحت بأن الطرفين: الأمريكى والإيرانى هما المعنيان أساسا بكل قضايا منطقة الشرق الأوسط الكبير، الأمر الذى ساهم فى تهميش الأدوار العربية ورفع مستوى الطموحات الإيرانية بما يتلاءم مع ارتفاع قامتها لتطول مستوى التنافس مع القوة العظمى، فقد أصبح من الضرورى قيام السياسات العربية بتحديد خياراتها السياسية تجاه إيران والتحرك نحوها على مستويين: أولا: عربى داخلى، بوضع تصور عربى مشترك للتعامل مع القضايا الاستراتيجية العربية على أساس الدخول بثقل فى مشاكل المنطقة والمشاركة فى توجيه مسارها، ومحاولة استعادة الأوراق العربية التى تمثل عناصر القوة فى الموقف الإيرانى، والعمل على إعادة جميع الدول العربية إلى تحالفاتها الطبيعية داخل الإطار العربى مع الحرص فى نفس الوقت على الابتعاد بسياساتها الإقليمية عن الانزلاق فى كنف السياسات الغربية، باعتبار أن مصالح الدول العربية لها منطق مختلف عن منطق المصلحة الغربية فى المنطقة. ثانيا: إيرانى عربى، بفتح حوار موسع وصريح بين الطرفين يستهدف استطلاع النوايا وضبط العلاقات وتجنب أجواء الاستفزاز والتصعيد، وفتح جميع الملفات العالقة وتبادل الآراء حول آفاق التوافق السياسى والتعاون الأمنى، وحدود المصالح المتقاطعة والمتعارضة وكيفية التعامل معها. مع الحرص على أن يتم هذا الحوار على مستوى عربى جماعى موحد لمنحه ثقلا معادلا للثقل الإقليمى الإيرانى فى عملية التفاوض.