لنبدأ بالتحدى الأول وهو التشكيك فى الشرعية. ليست الدعوة إلى إسقاط الشرعية عن إسرائيل صادرة عن الدول العربية، ولا عن الفلسطينيين، إنما تأتى فى الواقع من خارج الحدود. أصبحت هذه الدعوة تمثل الهاجس الأكبر لدى الإسرائيليين فى الوقت الحاضر. يقول نتنياهو يوم 17 أكتوبر الماضى إن على إسرائيل أن تتصدى بكل الوسائل للمحاولات، التى تستهدف إسقاط الشرعية عنها، وعليها أن تعد نفسها لصراع طويل الآن ضد تداعيات تقرير جولدستون، الذى أعاد الأممالمتحدة، وفقا لرأيه، إلى عصر الظلمات عندما ساوت، بقرار صادر عنها، بين الصهيونية والعنصرية. أما وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة وزعيمة حزب كاديما تسيبى ليفنى فقد اتهمت نتنياهو صراحة أمام الكنيست يوم 18نوفمبر بأنه المسئول عما وصلت إليه حالة إسرائيل الآن التى افتقرت فى عهده إلى الشرعية واضمحلت المكانة، التى كانت تتمتع بها. ويبدو أن عدوى الحديث عن الشرعية قد انتقلت إلى وزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون، ولكن من أجل الدفاع عن إسرائيل هذه المرة، فأعلنت أمام مؤتمر الإيباك يوم 22 مارس الجارى (وهى المنظمة التى تمثل اللوبى الإسرائيلى النافذ فى الولاياتالمتحدة) أن أمريكا تحمل لواء التصدى لتلك التحديات، التى تحاول النيل من شرعية إسرائيل. والحقيقة أننى لم أتبين خطورة الحملة الرامية إلى إسقاط الشرعية عن إسرائيل وإبعادها إلا عقب إطلاعى على تقرير أعدته مؤسسة إسرائيلية باسم Reut فى 14 فبراير الماضى، وحمل عنوان «تحديات إسقاط الشرعية: إقامة مانع قوى لإيقاف امتداد نيرانها». المؤسسة المذكورة هى مؤسسة مستقلة وترفع تقاريرها وتوصياتها إلى أصحاب القرار فى إسرائيل. التقرير ضخم ولذلك سأحول تسليط الأضواء على أهم ما جاء به: تعرضت إسرائيل خلال السنوات القليلة الماضية إلى انتقادات عنيفة وبشكل متسارع فى مختلف أنحاء العالم مما أدى إلى تآكل مكانتها الدولية، وبالتالى تكبدت خسارة إستراتيجية ملموسة. والدافع من وراء هذه الانتقادات هو فى استمرار النزاع الإسرائيلى الفلسطينى. وأصبحت هذه الانتقادات بمثابة تحدى أساسى لحق إسرائيل فى الوجود. هناك شبكة متشعبة تعمل من أجل إسقاط الشرعية عن إسرائيل تضم منظمات وجمعيات غير حكومية، وأكاديميين فى أوروبا وأمريكا الشمالية، ويهودا من المعادين للصهيونية، بالإضافة إلى الأشخاص العاديين. ويضع هؤلاء فى اعتبارهم المصير الذى انتهى إليه الاتحاد السوفييتى، وألمانيا الشرقية، ونظام التفرقة العنصرية فى جنوب أفريقيا. وعلى الرغم من أن وضع إسرائيل الدبلوماسى ما زال قويا نسبيا، فإن مكانتها لدى الرأى العام وبين النخبة فى تآكل (أعتقد أنه حتى هذه المكانة قد أصبحت فى الواقع موضع شك كبير إذا نحن تتبعنا ما جرى فى الأيام الأخيرة من طرد بريطانيا لعضو فى السفارة الإسرائيلية فى لندن على خلفية تزوير جوازات سفر لاستخدامها فى اغتيال محمود المبحوح، واحتمال أن تلجأ دول أخرى، امتهن مواطنوها وجوازات سفرهم بنفس الطريقة ولنفس الغرض، إلى اتخاذ خطوات ما فى مواجهة إسرائيل. تشمل هذه الدول استراليا وفرنسا وأيرلندا والسويد والنمسا وألمانيا). تهدف هذه المنظمات والشخصيات إلى اعتبار إسرائيل دولة منبوذة pariah state، كما أن نظامها يقوم على التمييز العنصرى. ويقوم هؤلاء بتعبئة الرأى العام حول قضايا مهمة مثل رفع الحصار المفروض على غزة، ومناصرة الشعب الفلسطينى. ويدعون إلى اتباع أساليب ثلاثة فى مواجهة إسرائيل، وهى المقاطعة، وسحب الاستثمارات من مشاريعها، وتوقيع العقوبات عليها. أن الآثار الإستراتيجية لهذه المساعى أصبحت ظاهرة للعيان تماما، وتتمثل فى تعرض إسرائيلى للتدخل الدولى فى شئونها الداخلية، والحد من حريتها فى الالتجاء للقوة العسكرية، وفرض أنواع من المقاطعة الاقتصادية والعقوبات، وكذلك القيود المفروضة على سفر المسئولين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين إلى الخارج خشية إجبارهم (كمجرمى حرب) على المثول أمام محاكم الدول التى تأخذ بمبدأ الولاية القانونية الدولية. وينتهى البحث إلى أن القيام بحملة علاقات عامة لن تمكن إسرائيل من خوض معركة سحب الشرعية. إنما على إسرائيل، لكى تتمكن من التصدى للحملة، أن تلتزم التزاما أكيدا بالتوصل إلى السلام، وإنهاء سيطرتها على الشعب الفلسطينى، وفى نفس الوقت تمتع عرب إسرائيل بالمساواة الكاملة مع يهود إسرائيل. من منا كان يتصور أن تصل الأمور بإسرائيل إلى حد ضرورة الدفاع عن شرعيتها؟. استعرض نتنياهو عضلاته أمام اللوبى الإسرائيلى (الإيباك) منذ أيام لكنه يعلم فى قراره نفسه أن الأرض تميد من تحت أقدامه. انتقل الآن إلى المقطع الثانى فى عنوان هذا المقال والخاص بانحسار الأهمية الاستراتيجية لإسرائيل. مما يدعو إلى العجب أن الأمريكان أنفسهم قد فطنوا إلى ذلك بعد عقود من التضليل وانعدام الرؤية الصحيحة للأمور. خرجت صحيفة التايمز اللندنية بمقال يوم 16مارس الماضى يحمل عنوان «لأول مرة هناك أصوات تتساءل عن حقيقة الأهمية الاستراتيجية لإسرائيل». ويشير المقال إلى أن الجنرال الأمريكى ديفيد بترايوس قائد عام القيادة المركزية المسئول عن الشرق الأوسط يتساءل الآن علانية عن أهمية إسرائيل كحليف استراتيجى للولايات المتحدة. وفى شهادة لبترايوس أمام لجنة الخدمات العسكرية بمجلس الشيوخ الأمريكى فى منتصف مارس الجارى ذكر أن «الغضب العربى فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية يحد من قوة وعمق الشراكة الأمريكية مع حكومات وشعوب المنطقة». (قام بترايوس فى وقت لاحق من الشهر بالاتصال تليفونيا برئيس أركان حرب الجيش الإسرائيلى نافيا أنه ألقى باللائمة على إسرائيل لإفشال جهود التوصل إلى تسوية فى الشرق الأوسط وتعريض المصالح الأمريكية للخطر). غير أن هذا لا يغير من واقع ما صدر عن نائب الرئيس الأمريكى بايدن بعد الإعلان عن بناء 1600وحدة استيطانية فى القدسالشرقية، حيث ذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية أن بايدن قال لرئيس وزراء إسرائيل «إن ما نفعله هنا يقوض أمن القوات الأمريكية التى تخوض الحروب فى العراق وأفغانستان وباكستان، وأن هذا يعرضنا ويعرض السلام فى المنطقة للخطر». ويضيف بايدن «أن العالم الإسلامى يربط بين التصرفات الإسرائيلية وبين السياسة الأمريكية، فأى قرار حول البناء فى المستوطنات بما يؤثر على حقوق الفلسطينية فى القدس، يمكن أن يؤثر على سلامة القوات الأمريكية التى تحارب ضد الإرهابيين». منذ أيام قليلة زار وفد من ضباط سلاح الطيران الأمريكى (ضمن برنامج إعداد القادة لمواجهة تحديات القرن ال21) المجلس المصرى للشئون الخارجية حيث استمع إلى تقييم عدد من الزملاء أعضاء المجلس للأوضاع الجارية فى المنطقة. ركزت فى حديثى معهم حول قضيتى انحسار الشرعية، جنبا إلى جنب مع تضاؤل الأهمية الإستراتيجية لإسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة. وذكرت أنه ليس من الصعب الآن تبين أن إسرائيل قد أصبحت عبئا liability على الولاياتالمتحدة وعنصرا سالبا فى إستراتيجيتها. وأنه فى كل مرة تقدم فيها إسرائيل على إحدى مغامراتها سواء فى لبنان أو فى غزة أو فى غيرها من دول المنطقة فإنها تنتقص تلقائيا من أى رصيد إيجابى يكون للولايات المتحدة لدى الدول العربية. فى تصورى أنه مثلما منعت الولاياتالمتحدة إسرائيل من مهاجمة العراق عندما قام بإطلاق الصواريخ ضدها أثناء غزوه للكويت عام1990، خشية انفراط عقد التحالف الدولى ضد العراق، فإن كل الشواهد تشير الآن إلى أن الولاياتالمتحدة تحذر إسرائيل من القيام بأى عمل انفرادى ضد إيران يمكن أن يؤدى إلى تخريب المصالح الأمريكية فى المنطقة. مع وجود صديق كهذا، من يحتاج إلى عدو؟ والآن أتساءل: أين نحن من كل هذه التطورات التى تقع من حولنا، ومن التحولات فى نظرة العالم لإسرائيل بسبب أخطائها وممارساتها. أعتقد أن الوقت قد حان لكى نضع أيدينا فى أيدى هؤلاء الذين يقومون بفضح إسرائيل، وإحكام الضغوط من حولها.. عندئذ فقط، وليس قبل ذلك، يمكن الدخول فى مفاوضات قد تحمل فى ثناياها بصيصا من الأمل.