بعد خطب محمود عباس وبنيامين نتنياهو فى الجمعية العامة للأمم المتحدة، لم يعد هناك شك لدى أى عاقل أن سياسة إسرائيل فى الماضى والحاضر والمستقبل هى الاستيلاء على الأرض لا التعايش مع الفلسطينيين فى سلام عادل ودائم. وذلك جزء راسخ من العقيدة الصهيونية التى طالما روجها الإسرائيليون فى أوروبا والولاياتالمتحدة بأن منطقة الشرق الأوسط يمكن أن تصبح جنة الله فى الأرض لو تضافر التقدم العلمى (التفوق العلمى) الإسرائيلى والعمالة العربية (الرخيصة) فى صناعة سوق (استهلاكية) كبيرة تغرق المنطقة بالإنتاج وتفيض على العالم بالسلع والخدمات. أضف إلى ذلك مؤخرا عنصر التمويل من الثروة الهائلة التى تجمعت من صادرات النفط العربى مع ارتفاع أسعاره،والاستثمارات الخليجية الضخمة فى الشركات والمؤسسات المالية الغربية. ومع احتلال إسرائيل لمساحات واسعة من الأراضى العربية عام1967واستمرار التأييد الأمريكى المفتوح لها، ارتاحت إسرائيل لهذا الوضع وواصلت تشديد الضغط لتحقيق أهدافها. والحل هو تقطيع أوصال المشروع الصهيونى وإرغام إسرائيل على التراجع بتأسيس حركة دولية لتجفيف منابع الاستثمارات الأجنبية فى إسرائيل على غرار حركة مناهضة الفصل العنصرى التى بدأت ضد نظام جنوب أفريقيا العنصرى فى الستينيات وأتت ثمارها بسقوط النظام فى أوائل تسعينيات القرن العشرين. الواقع على الأرض أن سياسة إسرائيل تتبع مسارين متوازيين لا يلتقيان: المسار الأول هو المراوغة إلى ما لا نهاية فى عملية السلام الواهمة، والثانى هو التقدم بثبات وإصرار فى الاستيلاء على الأراضى الفلسطينية وبناء المستوطنات فيها، بالإضافة إلى الزحف الثعبانى للجدار العنصرى العازل الذى يدمر حياة الفلسطينيين، ويخرّب اقتصادهم، ويفرّق شمل أسرهم. الحقائق من تقارير الأممالمتحدة تبين أنه على الرغم من جميع قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة بخصوص الانسحاب والمستوطنات، واتفاقيات كامب ديفيد (1978)، واتفاقيات أوسلو (1993)، ومبادرة السلام العربية (2002)، وخريطة الطريق (2003)، وحكم محكمة العدل الدولية (2004) بعدم شرعية الجدار العازل، ومفاوضات السلام الماراثونية فإن: عملية السلام فى جميع مراحلها لم تمثل عائقا أمام سياسة التوسع الاستيطانى منذ أيام رئيس الوزراء الأسبق اسحق رابين. وطبقا لحركة «السلام الآن» الإسرائيلية هناك 380000 إسرائيلى يعيشون فى الضفة الغربية (400000 طبقا للإذاعة البريطانية)،كما تنوى إسرائيل بناء 73000 وحدة سكنية جديدة. بناء الحائط العنصرى العازل يحرم نصف مليون فلسطينى يعيشون فى القدسالشرقية من التواصل مع بقية مناطق الضفة الغربية. وقد صرحت حكومة نتنياهو مؤخرا ببناء 486 وحدة استيطانية جديدة شمال القدس، وانتهت من وضع خطة لإقامة 3500 وحدة أخرى فى الضفة الغربية تستبق بها مفاوضات السلام التى دعت إليها إدارة أوباما (مكتب منسق الأممالمتحدة للشئون الإنسانية). طالب الأمين العام للأمم المتحدة فى تقرير له (2008) الجمعية العامة بأن تطلب من مجلس الأمن تفعيل حكم محكمة العدل الدولية بعدم شرعية الجدار الإسرائيلى العازل. كما أعلن أن تقييد حرية انتقال الفلسطينيين فى الضفة الغربية من خلال أكثر من 600 حاجز للتفتيش يعد انتهاكا للقانون الدولى. تطبيق القوانين الإسرائيلية على المستوطنين فى الضفة الغربية هو بمثابة إعلان عن ضم الأراضى التى تقوم عليها المستوطنات. كما أن تطبيق نوعين من القوانين فى الضفة الغربية، واحد على المستوطنين والثانى على الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال يماثل منهج الفصل العنصرى فى جنوب أفريقيا السابقة: قانون للبيض وقوانين أخرى تسرى على السود والملونين وحدهم. خلص البنك الدولى فى تقرير له صدر فى أكتوبر الماضى بعنوان «الآثار الاقتصادية لتقييد الوصول إلى الأراضى فى الضفة الغربية» أن إدارة الاحتلال الإسرائيلية تسببت فى انخفاض معدل الناتج المحلى للفرد بنسبة 40 فى المائة خلال الفترة من1999 حتى 2008. الموقف بعد مرور 42 عاما على هزيمة الدول العربية المحاربة فى يونيو 1967أن إسرائيل كسبت دائما معركة ضم الأراضى العربية والاستيطان فيها، والعرب خسروا غالبا محاولة الوصول إلى سلام عادل ودائم. كما أن كبارهم عملوا على قمع المقاومة الفلسطينية بحجة إعطاء الفرصة لجهود السلام. ولذلك أصبح من الضرورى اللجوء إلى المواجهة المؤثرة بدلا من المهادنة الفاشلة وحرب التصريحات، والآمال الكاذبة. ولعل تأسيس ودعم حركة دولية لسحب الاستثمارات الأجنبية من إسرائيل ومحاصرتها اقتصاديا يمكن أن يكون أكثر فاعلية من شن حرب جديدة عليها، إذا افترضنا توافر مثل هذه الإمكانية. سوف يجادل البعض بأننا جرّبنا ذلك من قبل ولم ينجح، وها هو مكتب المقاطعة العربية فى دمشق قد تحول إلى حبر على ورق. وسوف يقول البعض الآخر أن فكرة المقاطعة قد سقطت بعد توقيع كل من مصر والأردن معاهدتى سلام مع إسرائيل (ولكن معركة التطبيع لم تحسم لصالح إسرائيل رغم ذلك). وفى الماضى عارضت الدول الغربية (بريطانيا والولاياتالمتحدة) تطبيق عقوبات ملزمة على جنوب أفريقيا العنصرية بحجة أنها ستضير الأغلبية السوداء المقصود مساعدتها. ومع ذلك فإن حركة المقاطعة نجحت مثلما نجحت عقوبات الأممالمتحدة فى إضعاف نظام صدام حسين قبل الغزو الأمريكى للعراق. هناك ملامح بوادر غربية متفرقة لعقاب إسرائيل بالمقاطعة منها: سحب الحكومة النرويجية لاستثماراتها البالغة 5.4 مليون دولار من أموال صندوق المعاشات الوطنى من شركة «البت» الإسرائيلية للإنشاءات بسبب مشاركتها فى بناء الجدار العنصرى العازل. رفض حكومة السويد الاعتذار عن التحقيق الذى نشرته صحيفة «أفتونبلادت» حول قتل الجنود الإسرائيليين شبابا فلسطينيين وانتزاع أعضائهم الحيوية بشبهة التجارة فيها. مناداة 40 0من الأكاديميين والعلماء البريطانيين فى مارس الماضى متحف العلوم لإلغاء ورش العمل التى ينظمها المتحف للترويج للجامعات الإسرائيلية على أساس ضلوعها فى سياسة الاستيطان الإسرائيلية ودعم «الهجوم الكارثى» على غزة فى نهاية 2008. فرض بريطانيا حظرا جزئيا على قطع غيار ومعدات تستوردها إسرائيل بسبب استخدامها فى سفن حربية شاركت فى عملية «الرصاص المصبوب»على غزة. إلغاء وزير الخارجية التركى أحمد داوود أغلو زيارته لإسرائيل الشهر المقبل بسبب رفض السماح له بزيارة غزة، هذا بالإضافة إلى المظاهرات التى اندلعت فى المغرب احتجاجا على ما سمى ببوادر رسمية لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، ونفى وزير الخارجية المصرى أحمد أبوالغيط احتمال تطبيع العلاقات مقابل وقف الاستيطان. هناك دروس مستفادة من نشأة ونمو حركة مناهضة الفصل العنصرى فى جنوب أفريقيا فى بريطانيا عام 1964استجابة لقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل ذلك بعامين بإنشاء لجنة بهذا الاسم. واجهت الحركة كل أنواع الضغوط والتحديات وعلى رأسها الحكومة البريطانية نفسها التى اعتبرت أن تطبيق العقوبات على جنوب أفريقيا يعد عملا «غير دستورى».. لكن الحركة التى نشأت كعمل شعبى غير حكومى اعتمد على منظمات المجتمع المدنى ونجح فى التحول إلى حركة دولية لمكافحة وإسقاط سياسة الفصل العنصرى ورموزها وإطلاق سراح نيلسون مانديلا ورفع الحظر عن حزب المؤتمر الوطنى الأفريقى والمنظمات الأخرى، انتهاء إلى إسقاط منظومة حكم الرجل الأبيض. لم تفعل ذلك بمؤتمرات القمة والمشاورات الملكية الرئاسية وعمليات التفاوض الخاوية، ولكن باستراتيجية دولية واسعة ومؤثرة وهى الدعوة إلى سحب الاستثمارات الوطنية والدولية من جنوب أفريقيا. كانت أمضى أسلحة الحركة هى التعريف بوحشية النظام العنصرى على أوسع نطاق والضغط على جميع المؤسسات والشركات وصناديق الادخار والاستثمار والجامعات وصناديق المعاشات فى الدول الغربية لسحب جميع هذه الاستثمارات من جنوب أفريقيا وحظر التجارة معها. وأدت الحركة التى استمرت خمسة وعشرين عاما إلى تدهور قيمة عملة جنوب أفريقيا (الراند) وتدنى الصادرات بشكل حاد حتى قارب الاقتصاد على الانهيار، ثم اضطرار المؤسسات التشريعية فى أكبر الدول تأييدا لجنوب أفريقيا العنصرية إلى إصدار تشريعات بالمقاطعة.. كل ذلك بقوة كفاح ومثابرة المجتمع المدنى، المحلى والدولى، ورغم أنف الحكومات المعارضة للمقاطعة والعقوبات. سوف تساق بداية الحجج والأعذار عن قوة الحركة الصهيونية واللوبى الإسرائيلى والخوف من غضب الولاياتالمتحدة والعدوان الإسرائيلى، وكلها واهية فى السياق التاريخى. وإذا كان فى التاريخ عبرة فإنه من المشجع أن نذكر أن اللوبى الصهيونى الأسطورى لم يكن له وجود فى خمسينيات القرن الماضى، بل سبقه فى النفوذ والتأثير لوبى شيانج كاى شيك الذى كان يعمل لصالح الصين الوطنية (تايوان الآن) ثم أصبح أثرا بعد عين. فقط على التنظيمات المدنية العربية أن تتحرك وتتواصل مع مثيلاتها فى أوروبا وإسرائيل وأن تقنعها بتبنى مثل هذه الحركة بنفس المنطق ولنفس الأسباب التى أدت إلى نشوء حركة مناهضة الفصل العنصرى فى جنوب أفريقيا، وهو أن سياسات إسرائيل تقوم على العنصرية وتمثل بذلك تهديدا للسلم والأمن العالميين فى أكثر مناطق العالم حساسية وتأثيرا.