• كسر النمط السائد فى طرح الموضوعات تحدٍ لأى روائى • حاولت وضع مسألة الهوية فى إطارها الأشمل محاولات جادة لإنتاج الواقع عبر خيوط الإبداع الأدبى، التعبير عما يشغل القلوب والعقول بالنصوص الحالمة، سمات تميز إبداع الروائى أحمد طيباوى، والذى صدر له مؤخرا عن دار الشروق رواية «باب الوادى»، كلوحة بانورامية يضفر فيها قصة حياة بطله ورحلة بحثه عن هُوِيَّتِهِ مع تطور بلاده الجزائر عبر مراحل زمنية متعاقبة. «أكتب شخصياتى وأطوّرها، أحدد ملامحها وأرسم مساراتها ونهاياتها»، بتلك الطريقة يتحدث الطيباوى فى حواره مع الشروق، عن الطريقة التى يقوم من خلالها بإبداع أعماله الأدبية، موضحا أن كسر النمط السائد فى طرح الموضوعات من قبل المبدعين هو تحدٍ لأى روائى حقيقى. انشغلت الرواية بطرح سؤال الهوية لكن بشكل غير نمطى، هل يمكن أن تحدثنا عن ذلك؟ نحاول من خلال الفنون والآداب إعادة إنتاج واقعنا وأفكارنا وعلاقاتنا وكل ما يشغل العقول والقلوب، وتاريخنا الفردى أو الجماعى، وما يسعدنا وما يرهقنا ويجعلنا تعساء.. والرواية بالذات، بما أنها موضوعنا فى هذا الحوار، هى سجل للإنسانية، لكنها ليست استنساخا مجردا وحرفيا لما ذكرته سابقا، كسر النمط السائد فى طرح الموضوعات من قبل مبدعين آخرين هو تحدٍ لأى روائى حقيقى، فضلا عن تجاوز النمط المباشر فى مقاربة مسألة صعبة ومعقدة مثل الهوية. الإبداع عندنا، وبعيدا عن التجميل اللغوى للنصوص، محدود، وكذا القدرة على الخوض فى التجريب بوصفه الشكل الكتابى المحتمل للنص بما يتضمن الخروج عن الأنماط السائدة مع الوصول إلى الجمالية والقيمة المطلوبتين دائما، هذه القدرة هى على المحك، نعم هناك من يخوضون فى التجريب، ويحاولون الدفع بنصوصهم إلى شكل مختلف، ولكن للأسف بعضهم يجربون من أجل التجريب. اسم «باب الوادى» الذى اخترته للرواية، وهو عتبة للنص، إلام يشير تماما؟ لمدينة الجزائر خمسة أبواب تاريخية معروفة، أشهرها باب الواد (كان هناك وادٍ يصب فى البحر، وباللهجة العامية فى الجزائر تسقط الياء فيصبح الوادى هو الواد) وقد حمل الحى العريق اسمه، وهو من زمن العثمانيين، أى قبل مجىء جيش الاحتلال الفرنسى للجزائر فى يونيو من عام 1830. سكنه فى الفترة الاستعمارية معمّرون كولون، وهو الآن أشهر حى شعبى بالعاصمة الجزائرية، ربما يعطى عمرانه وشكل البناء فيه صورة عن الأثر الباقى من الزمن الفرنسى، ومع ذلك حاولت المضى لأبعد من ذلك، تجاوزت التصوير السطحى للمعالم، وذهبت للآثار العميقة لوطأة الحاضر وثقل التاريخ، وبحثت عن روح المكان كأنه الجزائر التى تتزاحم فيها الأزمنة، ولكن ولأكون صريحا مع القارئ الكريم، ليس المكان بطلا فى رواياتى وهذه منها، أو فلأقل إنى أعتبره امتدادا للإنسان، يكون موجودا بقدر ما يساعد وجوده داخل الرواية (الوصف، المعالم، الشوارع..) فى توضيح السياقات الضرورية، أنا ضد الحشو والثرثرة الزائدة عن الأماكن والأشياء دون حاجة سردية لذلك. حرصت على تناول واقع الجزائر بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كيف أمكنك وضع ذلك فى قالب روائى جذاب؟ أتمنى أن تكون الرواية جذابة كما وصفتها وتحقق الفائدة والمتعة، سؤال الهوية الوطنية يبدأ منذ تكوين الدولة والنظام السياسى، أو قبل ذلك حتى، ويبقى مستمرا يحتاج لإجابة معدلة حسب ما تتطلبه حياة المجتمع وتطوره، وبالطبيعة تزداد حدّته فى فترة الأزمات حيث الصدام حول التوجهات الكبرى للبلد، روايات جزائرية كثيرة تطرقت للمأساة الوطنية (وهذا هو اسمها بعد إقرار قانون المصالحة الوطنية).. حاولت وضع مسألة الهوية فى إطارها الأشمل، زمنيا من ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، إلى سنوات قليلة ماضية، ومكانيا بين ضفتى المتوسط، والأزمة الدموية فى تسعينيات القرن الفائت لم تكن سوى فصل منها. هل هناك مساحات للتداخل ما بين الروائى والمؤرخ، أو أرضية مشتركة بينهما، عند التعرض تحديدا لصفحات من تاريخ الأوطان؟ لا أحب أن يوحى سؤالك هذا للقارئ بأن «باب الوادى» رواية تاريخية، فكل أحداثها كانت فى العقد الثانى من الألفية الجديدة، والعودة للخلف فيما يخص بعض شخصياتها كانت لضرورة كشف سيرتها كاملة. بعد هذا التوضيح يمكننى أن أجيبك، المؤرخ موضوعى، يبحث عن الحقيقة التاريخية من خلال دراسة الظواهر التاريخية ووقائع الحروب وأسبابها ونتائجها والصراع السياسى والنزاعات حول الموارد وما إلى ذلك، بالاستناد على المنهج التاريخى، وهو أحد مناهج البحث العلمى فى ميدان العلوم الاجتماعية، أما الروائى فذاتى، يعيد إنتاج واقعه وماضيه فى شكل فنى يناسب موضوعه، يهتم بالجوانب الإنسانية أكثر، وقد تكون شخصياته التى يشتغل عليها ذات حيثيات اجتماعية وثقافية مختلفة، ليسوا مشاهير ولا أبطالا ولا مؤثرين فى مسار الأحداث التى عايشوها، وأحيانا قد تكون تلك الشخصيات فى نصوصه امتدادا له. وما يدعيه البعض من أن كتابة الرواية التاريخية أصعب من كتابة نصوص ترتبط بالحاضر، باليومى والمباشر، لا أشاطرهم فيه الرأى، فما يزعمه أولئك الذين يعلون من شأن الروايات التاريخية، يقال غالبا كنوع من التمجيد الشخصى. لكن حتى فى استلهام الشخصيات الحقيقية من التاريخ أو الحاضر فالكاتب بحاجة دائما للتخييل، وإلا كنا أمام سرديات تستنسخ التاريخ/ الواقع. لا أحد يقرأ الرواية التاريخية للحصول على الحقائق النهائية بشأن ما حصل فى الماضى. إن ما يميز الآداب والفنون أنها تعيد إنتاج الواقع، وفق معايير القيمة وأدوات جمالية وإبداعية، وجعله قابلا للتصديق، لا استنساخه كما هو. رسمت لوحة بانورامية لحياة البطل ومساراته ومتاهاته، هل تشابهت حيرته مع حيرة وطنه وهمومه؟ لا أنفى أنى أكتب شخصياتى وأطوّرها، أحدد ملامحها وأرسم مساراتها ونهاياتها، وفى بالى أنها لا تمثل نفسها فقط، هناك اختزال لفئات أو تيارات أو طبقات كاملة فى شخصيتين أو ثلاث، يحدث هذا أحيانا، لا ضير فى ذلك، لكن الإسقاطات ليست قطعية الدلالة ومباشرة، ما نتمثّله دوما أبسط بمراحل من تعقيدات الواقع. لن أحجر على رأى قارئ قد يخبرنى فى الغد بأن بطلى «كمال» هو الجزائر المنقسمة، الباحثة عن هوية ترضى بها وتكون محل إجماع من أبنائها، كما لا يمكننى ذلك إن رأى ناقد أو قارئ آخر بأن له تفسيرا آخر. قوة النص تكمن فى الابتعاد عن المباشرة وتعدد التأويلات. من كتب هذه الرواية هو أحمد طيباوى، أما من سوف يقرأونها ويكون لهم حرية التلقى فهم كثيرون جدا، ولا يمكننى، وليس من وظيفتى فى الأصل، أن أوجه أفهام متلقى هذه الرواية. هل تعمدت أن تتسم لغتك فى «باب الوادى» بحساسية شعرية؟ تُكتب الرواية وفق رؤية، الأسلوب وباقى الأدوات من هندسة وبناء للنص وطبيعة الشخصيات والحوادث واللغة والمفردات المستخدمة وغير ذلك.. كله يتحدد وفق رؤية مسبقة، أو تصور عام، ثم يجمع الكاتب بينها ليصنع إن جاز استخدام اللفظ روايته. من الضرورى أن تخدم تلك العناصر الرؤية التى يتبناها الروائى. من جهتى أهتم باللغة، واعتبرها واحدة من أهم مرتكزات الإبداع، الاقتدار فيها من الممكن حتى أن يغطى على بعض مكامن العجز فى النصوص (وهذا وجدناه فى كثير من الروايات) لكنها ليست دعامتى الوحيدة فى «باب الوادى»، وآمل أن يجد القارئ فى هذه الرواية ما يفيد عقله ويحقق له المتعة. سبق وأن حصلت على جائزة نجيب محفوظ للأدب، فما أهمية الجوائز بالنسبة للمبدع؟ سأتحدث عن تجربتى فى جائزة نجيب محفوظ للأدب، فبعد إعلان الفوز والنشوة التى صاحبته، صرت أفكر كم أن التحدى كبير، أقصد تقديم نصوص جديرة بالمتعة، ناضجة وعميقة، وإجمالا أدب حقيقى. شعرت بسعادة كبيرة، وقد أمدتنى هذه الجائزة بجرعة من الثقة والتقدير لما أكتبه حتى يكون الاستمرار ممكنا بعبء نفسى أقل، وكون الجائزة تحمل اسم نجيب محفوظ فهذا يضعنى بلا شك كما ذكرت أمام تحدٍ كبير، ولعلّ ذلك مهم، فبعض التحديات قد تدفعنا لكتابة أجمل، وأعمق، وأقرب إلى الاكتمال والنضج اللذين ننشدهما فى أعمالنا. الجوائز الأدبية بعيوبها ومزاياها، وبرؤى القائمين عليها ونظرتهم للأدب، أصبحت أمرا واقعا وعاملا مؤثرا، فهى توجه القارئ العربى والإعلام، وتتيح للنصوص الفائزة وحتى لبقية نصوص الروائى المتوج، أن تحظى بالاهتمام، وللأسف هذا قد يؤدى إلى إهمال نصوص وروايات أخرى ذات قيمة أدبية وفنية. كما قد يحدث أن يكتب البعض من أجل الجائزة فيطوعون أقلامهم فى سبيل ذلك. وكنت قد صرحت منذ أشهر فى لقاء تلفزيونى بأن القاهرة ستبقى إن شاء الله عاصمة ثقافية أبدية للعرب، والعبور للقارئ المصرى مهم، وقد صدرت «باب الوادى» منذ أيام قليلة مع دار الشروق. أتمنى أن تلقى هذه الرواية صدى طيبا فى مصر وفى كل بلد عربى، وقد يكون بداية لتعاون وحضور دائمين. أعتقد أن الخروج بالأدب الجزائرى لأبعد من حدوده بات ضروريا، كتّاب كثُر خاضوا تجربة النشر المشترك أو النشر خارج الجزائر.. لكننا ما زلنا بعيدين إجمالا عن تصدير الأدب الجزائرى للأفق العربى كما ينبغى. وكيف ترى المشهد الأدبى والثقافى فى مصر والبلدان العربية؟ بالنسبة للمشهد الأدبى والثقافى فى مصر والبلدان العربية، لا أزعم أنى على إطلاع تام بواقع الأدب والثقافة فى كل الأقطار العربية بما يتيح لى إعطاء انطباع أو رأى صحيح، لذا سأكتفى بالحديث عن المشهد عندنا فى الجزائر، فمن حيث الكم هناك إصدارات روائية كثيرة، لكن من جهة القيمة فنحن بتقديرى فى حاجة لتفعيل النقد والصحافة الأدبية، لفرز الجيد من الردىء أو الأقل نضجا والأقل إبداعا. لدينا تقصير كبير من جهات مختلفة فى هذا الجانب. وهناك مشكلات تعرفها حركة الكتاب من الجزائر وإليها وكذا توزيعه داخل الرقعة الجغرافية الواسعة. إضافة لفوضى النشر التى يؤسفنى القول إنها ميّعت مهنة الكتابة، وصار لقب كاتب مبتذلا.