المشهد هذه المرة ليس كالمعتاد، نعم هو محل للجزارة فى سوق شعبى بأحد الشوارع فى حى الدقى، لكننا لا نرى اللحوم معلقة أمام باب المحل ملفوفة بالشاش الرقيق كما هو الحال دائما، فارتفاع أسعارها جعل الطلب عليها قليلا، وبالتالى من الأسلم حفظ الكمية الموجودة بالمحل فى الثلاجات لحمايتها من التعفن. أحمد سلامة، صاحب المحل الذى ورثه عن والده، والذى بدأ العمل فى هذه المهنة منذ عام 1951، يقف خلف الميزان، مرتديا الملابس الحديثة عكس ما هو متصور عن الجزارين، ليزن ما لديه من اللحوم التى أصبح لا يشتريها من المذبح سوى مرة واحدة فى الأسبوع بسبب ارتفاع أسعارها وتراجع الطلب عليها. «الجزار متضرر من ارتفاع أسعار اللحمة أكثر من الزبائن نفسهم، طول ما اللحمة غالية احنا تعبانين»، هكذا الحال على حد وصف سلامة الذى يبدأ أسبوع عمله يوم الثلاثاء أو الأربعاء، حيث يتصل بالتاجر الذى يتعامل معه فى المذبح للحصول على الكمية التى يريدها من اللحوم التى يبيعها خلال باقى الأسبوع، وكلها من الفخذتين الخلفيتين التى يرتفع سعرها بنحو 5 جنيهات للكيلو عن الجزء الأمامى من الذبيحة، التى يحصل عليها جزارون آخرون غالبا ما يكونون فى المناطق الأكثر شعبية وأقل فى مستوى المعيشة. وشهدت أسواق اللحوم فى مصر فى الفترة الأخيرة ارتفاعا جنونيا ملحوظا، مما أدى إلى انعدم الإقبال على الشراء، حيث يتراوح سعر كيلو اللحوم من 40 إلى 60 جنيها على حسب المنطقة أو المحافظة، وفى بعض الأماكن وصل السعر إلى 70 جنيها للكيلو، مما دعا الكثيرين إلى مطالبة الحكومة باتخاذ إجراءات فعالة لتوفير الماشية البلدية بأسعار مناسبة. ويبرر سلامة هذا الوضع بأن «الموضوع عرض وطلب»، وبالرغم من ضعف الطلب، إلا أن الأسعار لا تزال مرتفعة بسبب جشع التجار الذين يمتلكون مزارع كبيرة يصل رأسمالها فى بعض الأحيان إلى 200 مليون جنيه، حيث يقومون «بتعطيش السوق» لتبقى الأسعار مرتفعة ويحققون مكاسب كبيرة. «مافيا استيراد اللحوم»، سبب آخر يسوقه سلامة لارتفاع الأسعار بهذا الشكل الجنونى، حيث يصل حجم هذه التجارة إلى ملايين الدولارات، على حد قوله، لذلك «يحاول المستوردون عمل أزمة لترويج تجارتهم». ورغم ما يتردد عن إصابة اللحوم المستوردة ببعض الأمراض أو الفيروسات، إلا أن المواطن المصرى أصبح أكثر إقبالا عليها لانخفاض أسعارها. ويقول سلامة «بجانب محلى يوجد آخر بيشتغل فى المستورد ولا حد بيسأل عن أصلها ولا فصلها، ومكسبه أعلى منى بكثير، فأنا لا أحصل إلا على 10% من اللى بيبيعه المستورد». وتشير إحصاءات رابطة مستوردى اللحوم والدواجن، إلى أن مصر تستورد سنويا نحو 250 ألف طن لحوم مجمدة و200 ألف رأس أبقار حية فى المتوسط، فيما يتم استيراد أكثر من 60% من اللحوم من دولة الهند و30% لحوما برازيلية، وكميات ضئيلة من عدة دول أخرى مثل أيرلندا. قد لا يصدق البعض هذا لكن، كما يقول سلامة، فإن نسبة المكسب لديه شبه معدومة بسبب الركود الذى أصاب سوق اللحوم البلدية، فمع بقاء اللحوم لفترة طويلة فى المحل يكون هناك هالك أكبر. ونوعية الزبائن المترددين على محل سلامة الذى بدأ العمل فى المهنة منذ عام 1977 اختلفوا عن ذى قبل، فالزبون الذى كان يشترى اللحمة كل أسبوع أصبح لا يطلبها إلا مرة كل عشرين يوما، على حد قول سلامة الذى يرى أن «فى ناس كثير بطلت تأكل اللحمة»، بل إن بعض الزبائن المعتادين لديه، أصبح يشاهدهم يتوجهون مباشرة إلى محل بيع اللحوم المستوردة الملاصق له، حيث يباع الكيلو مقابل 22 جنيها على الأكثر. حالة الركود انتقلت أيضا إلى المواسم التى كانت تزدهر فيها المبيعات، مثل شهر رمضان وعيد الأضحى، فعلى حد قول سلامة مبيعات اللحوم فى موسم شهر رمضان فى تراجع مستمر سنويا بسبب ارتفاع الأسعار. هذا الوضع دفع بعض الجزارين إلى إغلاق محالهم، يقول سلامة «أى منطقة فيها 5 أو 6 جزارين لازم تلاقى فيها 2 أو 3 قفلوا... أنا نفسى قفلت المحل سنة 2007 و2008 بسبب ارتفاع الأسعار، ورجعت فتحته مرة أخرى فى سبتمبر 2009 لكن لقيت الأسعار أعلى من قبل كده». ولأن السوق فى حالة من الركود فقد اضطر سلامة إلى الاستغناء عن المساعدين الذين كانوا يعملون معه والذى كان عددهم يتراوح بين 2 أو 3 أشخاص حسب ظروف العمل، لكن الآن يقول «هاعمل بيهم إيه؟». ويرى سلامة أن حل هذه المشكلة يكون من خلال الامتناع عن ذبح العجول البتلو، موضحا أنه عند ذبح العجل وهو صغير يكون وزنه من 40 إلى 45 كيلو، أما إذا ترك حتى سن 6 أشهر فسيصل وزنه إلى أكثر من 225 كيلو، أى ما يعادل 5 عجول صغيرة، «منع ذبح البتلو هيفك الأزمة ويخلى الكيو بنص ثمنه الحالى». أما عن مشكلة العلف التى يسوقها البعض لتبرير ارتفاع أسعار اللحوم، فيرى سلامة أنها يمكن حلها من خلال وزارة الزراعة، بأن تقوم باستصلاح الأراضى الموجودة لديها وزراعتها بالبرسيم والأعلاف الأخرى، لتوفير حاجة السوق وتخفيض الأسعار. لكنه يقول «فى ناس بتقول وزارة الزراعة ما تقدرش تعمل كده عشان المستوردين مستفدين من ده، يعنى لازم نأخذ العلف بالسعر اللى محددينه بره. هكذا ينتهى الحديث مع سلامة لنتركه فى محله يواصل وزن لحومه وبجانبه تقف قطة فى انتظار أن يأتى زبون لشراء اللحوم لتحصل على نصيبها من بواقى التقطيع.