عند الحديث عن الإضرابات، والاعتصامات، وهموم العاملين، لا تكون مواقع الاستشارات الإسلامية أول ما يتبادر إلى الذهن، ولكن إذا كانت هناك حاجة إلى دليل على أن الموجة المصرية الاستثنائية من الاحتجاجات وصلت إلى جميع أنحاء البلاد، فها هى دراما اليوم فى موقع إسلام أون لاين تقدم مثالا ينطبق عليه هذا الرأى. يعتبر إسلام أون لاين واحدا من أكبر المواقع الإسلامية على شبكة الإنترنت وأكثرها تأثيرا، حيث يبلغ عدد زواره 120 ألف زائر يوميا، وهو يبث بعدة لغات. ويستخدمه المسلمون من بغداد إلى بسلدون كمصدر رئيسى للمعلومة البحثية فى كل شىء بداية من العجز الجنسى حتى التمرد فى العراق. ومن ثم، فإن مسألة من يملك الموقع ومن يسيطر عليه أمر مهم للغاية. وهذا هو السؤال المطروح اليوم، بعد تظاهر مئات من العاملين احتجاجا على ما يقولون إنه محاولة من قبل المحافظين فى الخليج لاختطاف الموقع وإجباره على اتباع أجندة أكثر تقليدية وأكثر تشددا. وعلى مدى شهور، تصاعد التوتر بين مكاتب تحرير الموقع فى القاهرة ومديريه فى الدوحة، الذين أسفرت خطتهم الأسبوع الماضى لفصل عدد كبير من العاملين فى القاهرة البالغ عددهم 350 موظفا عن احتلال مكاتب الشركة طوال الليل. ومن داخل المبنى هاتفنى فتحى أبوحطب، الصحفى السابق فى إسلام أون لاين وأحد قادة الإضراب، وقال: «نحن مستقيلون»، وأضاف: «إذا خسرنا هذه المعركة، فسوف تكون نهاية إسلام أون لاين الذى عرفناه. لقد كنا نمثل استثناء فى حرفيتنا، وفى اعتدالنا، ورفضنا الالتزام بأجندات خفية. وككل استثناء فى العالم العربى، وصلنا إلى نهاية الخط». إذن، ما هى المعركة بالضبط؟ ليس هناك الكثير من الاتفاق حول هذه النقطة، حيث خرجت مجموعة من التفسيرات من مكاتب إسلام أون لاين إلى موقعى تويتر وفيس بوك، بل وسيل من لقطات الفيديو التى أنشأها العاملون لبث شكاواهم إلى العالم. ويعتقد بعض العاملين أن الأمر يتعلق أساسا بنزاع عمل حول الأجر، وظروف الشركة وإدارتها، لكن آخرين يرون فيه ما هو أكثر من ذلك، فيضعون الجدل الدائر حول السيطرة التحريرية على إسلام أون لاين فى إطار صراع سياسى أوسع نطاقا بين مصر وقطر، بل وفى السياق الأكثر اتساعا للحرب الثقافية بين مصر والخليج. وعلى النحو الذى تفصله التقارير الإخبارية، هناك بالتأكيد الكثير من الدلائل التى تشير إلى أن مجلس إدارة جديد فى الدوحة يلقى بثقله فى المناقشات بشأن محتوى الموقع. ورأى محللون أن الطبيعة المنفتحة نسبيا والشاملة للموقع أثارت حفيظة بعض من هم أكثر محافظة من ممولى إسلام أون لاين فى الخليج. ويصعب فى هذه المرحلة التحقق من ذلك بطريقة أو بأخرى، ولكن إذا كان ذلك التفسير حقيقيا فلن يكون سوى الحلقة الأحدث فى الحملة الخليجية طويلة الأمد لانتزاع الهيمنة الثقافية فى العالم العربى من مصر. غالبا ما تساير الهيمنة على المشهد الثقافى الهيمنة السياسية، فى سوق الإعلام الشرق الأوسطى المحموم غالبا. وتاريخيّا، كانت بيروتوالقاهرة أكبر مركزين للإنتاج الثقافى. وفى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، لم يكن هناك منافس لمطربى القاهرة وصناع الأفلام فيها، وممثليها، وكتابها. وكانت مكانة مصر كعاصمة للثقافة العربية تعكس وضعها السياسى فى عهد جمال عبدالناصر، حيث كانت أم كلثوم تغنى، ويوسف شاهين يخرج أفلاما، وعبدالناصر هو القائد لكل «الشارع العربى»، يواجه الاستعمار الغربى فى السويس عام 1956، ويختال على المسرح العالمى. ثم جاء اكتشاف البترول فى السبعينيات، ووجدت دول الخليج فجأة نفسها وقد أصبح تحت يدها وفرة من البترودولار. وعلى مدى العقدين التاليين، مع غرق لبنان فى مستنقع الحرب الأهلية، وصدمة مصر باغتيال السادات، وبداية حكم مبارك البيروقراطى، أطلقت السعودية (وعلى نحو أقل الإمارات) برنامجا طموحا وباهظ التكلفة لإبعاد السيطرة على ثقافة المنطقة عن خصومها. والحروب الثقافية العربية مفتوحة على مختلف الجبهات، لكنها جميعا تشمل تخفيف قبضة مصر عن دفة الثقافة فى الشرق الأوسط. فعلى سبيل المثال، هيمنت التمثيليات والمسلسلات المصرية فترة طويلة على فترات ذروة المشاهدة فى التليفزيون، والآن تهجم الإمارات بالإنتاج الذى يتكلف الملايين مثل برنامج شاعر المليون، وهو برنامج تليفزيونى بالغ الشعبية يجتذب نحو 70 مليون مشاهد من أنحاء العالم العربى، على الرغم من أنه يعتمد على نمط غريب من أنماط الشعر العربى الخليجى. وجاءت النتيجة حتى الآن تقديرا لم يكن معروفا للهجة الخليجية عبر الشرق الأوسط. وتتولى هيئة أبوظبى للثقافة والتراث تمويل البرنامج، وهو يشكل جزءا من حملة أوسع نطاقا لجعل أبوظبى عاصمة الثقافة فى الشرق الأوسط، حيث يجرى حاليا إقامة نسخة محلية من كل من متحفى اللوفر الفرنسى وجوجنهايم الأمريكى. ولا يقتصر الأمر على مجرد قيام الخليج بإنتاج منتجات خليجية جديدة لمنافسة المنتجات المصرية، فالمستثمرون يسيطرون بنشاط على مؤسسات ثقافية مصرية ويعيدون تشكيلها لتعكس قيما خليجية أكثر محافظة. وكانت استوديوهات السينما المصرية تنتج نحو خمسة أو ستة أفلام فحسب سنويا أوائل التسعينيات، أما الآن وبسبب الاستثمار السعودى وحده تقريبا، تنتج نحو 40 فيلما، بعضها الآن يتعين عليه أن يلتزم ب«35 قاعدة» دينية وضعها الممولون السعوديون فى تحوُّل ضخم من القيم الإسلامية المصرية التقليدية الأكثر ميلا للتعددية إلى شكل أكثر تزمتا للإسلام الوهابى السائد فى الخليج. ودفعت هذه «السعودة» ببعض المصريين، مثل الملياردير نجيب ساويرس عملاق الاتصالات إلى الشعور بأنهم غرباء فى بلدهم. فقال: «فيما يخصنى، أرى أنها أكبر مشكلة فى الشرق الأوسط الآن.. فمصر كانت دائما ليبرالية جدا، علمانيَة جدا، وحديثة جدا. وأنا الآن.. أنظر إلى بلدى فأجد أنه لم يعد بلدى. إننى أشعر بأننى غريب هنا». وبينما هيأ العاملون فى إسلام أون لاين أنفسهم من أجل ليالى احتلال أخرى للمكاتب فى محاولة لتأكيد استقلاليتهم التحريرية فى مواجهة أولئك الذى يمولونهم، سيكون هناك اضطراب مقبل أوسع نطاقا فى جميع أنحاء عالم الإعلام العربى، يمكن أن يشكل خطورة على التعددية الثقافية. Guardian International Syndication