فى الشهر الماضى حصل أمر غير مسبوق فى تركيا: تم اعتقال أكثر من 50 من كبار ضباط الجيش، بمن فيهم جنرالات متقاعدون عدة، واستجوابهم من قبل المدعين العامين بتهمة الاشتراك فى مؤامرة انقلاب مزعومة. ويشتبه أن المؤامرة التى أطلق عليها الاسم الرمزى المطرقة الثقيلة كانت تهدف إلى الإطاحة بحزب العدالة والتنمية الحاكم، الذى يعده العلمانيون فى تركيا مفرطا فى إسلاميته. لقد قام الجيش التركى بالإطاحة بأربع حكومات منتخبة عبر العقود الماضية، لذا لم يكن فى هذا الجزء مفاجأة كبيرة. أما الأمر المفاجئ فعلا حد الصدمة فهو أن الجنرالات يخضعون فعليا للمساءلة. وقد كتب جولاى جكتورك، الليبرالى البارز: «يجب أن يفهم الجميع هذا الأمر على وجهه الصحيح. لقد أصبح نظام رعاية الجيش ضربا من الماضى». ويمكن للمرء أن يضيف أن تركيا أصبحت أخيرا مكانا أكثر ديمقراطية، حيث اليد العليا للسياسيين المنتخبين، وليس للضباط المعينين ذاتيا. كان «نظام الرعاية» العسكرية القديم يقوم على فكرة أن الشعب التركى وممثليه المنتخبين ليسوا على قدر كافٍ من الحكمة لحكم البلاد. والجنرالات الذين أسسوا هذا النظام رسخوا فيه شخصية كمال أتاتورك، بطل الحرب الذى أنقذ تركيا من الاحتلال بعد الحرب العالمية الأولى وأسس الجمهورية التركية عام 1923، ثم نفذ بعد ذلك برنامجا واسع النطاق لجعل البلاد غربية الثقافة. وما لا يفهمه إلا القلة فى الغرب اليوم هو أنه على الرغم من فوائد التغريب (خصوصا بالنسبة لحقوق النساء والتعليم)، فإن النظام لم يكن ديمقراطيا أو ليبراليا. وسبب ذلك أن الغرب الذى كان يسترشد أتاتورك به لم يكن فى أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينيات من القرن الماضى ملاذا آمنا للديمقراطية، بل كان يمر بالحقبة الذهبية للأنظمة السلطوية، وهو الدرس الذى تعلمه أتاتورك وأعوانه فى مسعاهم لخلق تركيا جديدة. وقد قام النظام الذى تمخض عن ذلك على عبادة الشخص والتحلق حول «القائد الأعلى»، وثلاث ركائز: العلمانية السلطوية التى قمعت حتى أكثر الجماعات الدينية اعتدالا وقومية اندماجية تحرم قانونيا كل الهويات «غير التركية» مثل الأكراد وسيطرة الحكومة على الاقتصاد. وبعد الحرب العالمية الثانية أجبر الكماليون على قبول نظام التعددية الحزبية، لكن ظلت الكمالية هى الأيديولوجية الرسمية، ولو حصل أن الحكومات المنتخبة ديمقراطيا ضلت عن تعاليم الكمالية، كان الجيش يتدخل، كما فعل فى مناسبات دموية عدة. عاش النظام شبه الديمقراطى هذا حتى دخل القرن ال21، لكنه بدأ يتعثر فى العقد الأخير. وأحد تفسيرات ذلك هو حزب العدالة والتنمية الذى اعتلى السلطة عام 2002. ومن الأسباب الأخرى الإصلاحات القانونية، التى شجع عليها الاتحاد الأوروبى، مما أفسح المجال لحرية تعبير أكبر وإلغاء للمؤسسات السلطوية مثل محاكم أمن الدولة. أما التغيرات الأوضح فقد حصلت داخل المجتمع التركي. لقد أدرك المعسكر الإسلامى المحافظ، بعد عقود من لوم الغرب على الظلم الذى يتعرض له على يد الكماليين، أن الليبرالية الغربية نعمة وليست نقمة، ولذا فقد باشر فى عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى. وكان من الطبقة الوسطى المسلمة، أن نأت بنفسها عن الأيديولوجية الإسلامية، وبدأت تدافع عن العلمانية الليبرالية على النمط الأمريكى. بالمقابل لم يقدم الكماليون فى ردهم على ذلك شيئا يذكر سوى المزيد من القومية والمزيد من جنون الشك. وكان محصلة ذلك نشوء تركيا ما بعد الكمالية. إن اختفاء الكمالية كعقيدة رسمية أمر جيد، ذلك أن الأنظمة الأيديولوجية قد عفا عليها الزمن. ويخشى بعض النقاد أن تثبت النخبة الجديدة، أى المحافظين المتدينين، أنها غير متسامحة كما كان الجنرالات من قبلهم. لكن هذا الخوف مبالغ فيه، حيث إن العامل المؤدى حقيقة إلى تلاشى الكمالية وهو انتشار التعددية فى المجتمع التركى، سوف يتحدى أى محاولة لفرض الحكم السلطوى. صحيح أن حزب العدالة والتنمية لا يتكون من ديمقراطيين على شاكلة جيفرسون، بالإضافة إلى كونه حزبا هرمى البنية وغير متسامح مع النقد وشغوف بالتلاعب بالإعلام، إلا أنه يتمتع بما يكفى من البراجماتية ليتعلم من أخطائه. وكذا فإن زعماءه أكثر ليبرالية من الحرس القديم فى قضايا عدة، بما فى ذلك حقوق الأكراد والمسيحيين. يبقى أن تركيا تحتاج إلى دستور جديد كى تعزز مكاسب الديمقراطية، بحيث يضمن كل الحقوق والحريات بوجود أجهزة رقابة لحمايتها. ويجب أن يحد الميثاق الجديد من السلطة المركزية للدولة ويعززها لدى الإدارات المحلية، بينما يبنى نظاما قضائيا غير حزبى وجامعات تتمتع بالحكم الذاتى ويرسخ مبدأ مساءلة السياسيين والبيروقراطيين. والمطلب الأكثر جوهرية هو أن على الدستور الجديد أن يكون لأجل الشعب ومن الشعب، على خلاف الدستور الذى وضعه الكماليون، والذى يحمل شعار: «لأجل الشعب، على الرغم من الشعب». Newsweek