كثيرا ما نشاهد مقدمى بعض البرامج وضيوفهم يترحمون على زمان وأيام زمان، زمن الفضيلة والخير والأخلاق الحميدة حسب زعمهم ذاكرين أنه فى الفترة الأخيرة كثرت الجرائم بجميع أنماطها وأشكالها وأسبابها، معبرة عن خلل اجتماعى شديد. وأيا كان نوع تلك الجريمة موضع الحديث فى أى من البرامج فإننا غالبا ما نسمع من مقدم البرنامج أو ضيفه عبارة (إن هذا النوع من الجرائم غريب على مجتمعنا، وأن هذه الوقائع لم تكن موجودة فى الماضى...) فى حين أن التاريخ يؤكد عدم مصداقية هذه العبارة، ويشير إلى عكس ذلك تماما؛ فعلى سبيل المثال كثر مؤخرا جرائم قتل الأقارب بسبب الحاجة إلى المال والإدمان وغيرها من الأسباب، واعتقد البعض أن تلك أمور مستجدة على مجتمعنا الشرقى المحافظ، بينما تؤكد الوثائق التاريخية عكس ذلك تماما، حيث تشير إلى انتشار تلك النوعية من الجرائم، حتى بين الشريحة المتعلمة من الأفندية المثقفين. ففيما يتعلق بجرائم القتل: تشير وثائق ودوريات النصف الأول من القرن العشرين، إلى ارتكاب عدد من الأفندية هذه الجريمة لأسباب عديدة مثل الانتقام، أو الثأر، أو الضغائن، أو لنفقة شرعية أو لدفع العار، أو للضيق المالى، أو بسبب المنازعات والمشاجرات، أو بسبب السرقة. وهناك أمثلة عديدة تؤكد لى ذلك، فمثلا: أقدم موظف بإحدى المصالح على قتل أخيه طعنا بسكين طمعا فى ماله، إذ أن الموظف القاتل مدمن لمادة الكوكايين، وفى حاجة دائمة للمال، بينما أقدم آخر على قتل جدته لأمه، بعد أن سرق أموالها. فى حين قتل أحد الموظفين زوجته بسبب خلاف عائلى. كما طعن طالب بإحدى المدارس المتوسطة زميله بمطواة فى ظهره، طعنة أدت إلى وفاته بعد مشاجرة وقعت بينهما. أما جرائم السرقة فقد انتشرت فى مصرفى فترات الحروب والأزمات الاقتصادية والسياسية، ففى أثناء الحرب العالمية الأولى بسبب وقوف حركة العمل، وارتفاع الأسعار انتشرت بين العاطلين وأصحاب المهن الصغيرة، كالخدم، والعربجية وغيرهم. ثم سرت عدوى السرقة إلى الموظفين أنفسهم لضيق ذات يدهم، وللحالة التى وصلوا إليها، فشدة الغلاء جعلت البعض ينقادون إلى التماس الكسب بالطرق المحرمة بسبب ضيق ذات اليد. و يجدر بنا أن نشير إلى أن السرقة جريمة تدل على نفسية حقيرة، لا يلجأ إليها إلا أحقر الطبقات. لكن الأزمات المالية غالبا ما يتخلف عنها زيادة الحوادث الإجرامية، خاصة السرقة، وحوادث النشل التى يلجأ إليها العاطلون وأصحاب الدخول البسيطة. والنماذج العديدة التى تمتلئ بها صفحات دوريات الفترة تشير إلى تورط عدد كبير من الأفندية والمتعلمين المثقفين فى جريمة السرقة بسبب سوء الأحوال المعيشية كنتيجة لضعف الدخول والمرتبات وغلاء المعيشة، وارتفاع نسبة البطالة وخاصة خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهو ما أدى إلى اضطراب الأحوال المالية والاقتصادية لهم، فكان ذلك سببا مباشرا فى لجوء عدد منهم إلى ارتكاب تلك الجريمة لحل مشكلاتهم المادية، وسد احتياجاتهم العائلية. وقد تنوعت الدرجات الوظيفية والمهنية، والمستويات الاجتماعية لهؤلاء الأفندية، الذين ارتكبوا هذه الجريمة. فكان بينهم موظف الجمارك والطبيب، هذا إلى جانب صغار موظفى ومستخدمى النظارات المختلفة. كما تنوعت الأشياء المسروقة ما بين المبالغ المالية، والمشغولات الذهبية، والأشياء الثمينة، التى قام بعض الأفندية بسرقتها من الفنادق وبيوت الغرباء وبيوت الأصدقاء على سواء، الأمرالذى يشير إلى أن سوء الأحوال الاقتصادية والمعيشية والبطالة يكون سببا قويا ومباشرا لجرائم السرقة فى كل الأزمنة والعصور وفى جميع الطبقات والمستويات المهنية والاجتماعية. وهناك جريمة الانتحار التى تقع نتيجة اضطرابات عصبية، وتأثيرات نفسية. لا تستطيع الشرطة مع الأسف منعها قبل حدوثها، وتنتشر فى البيئة المتعلمة. وتقع لأسباب عديدة منها الإدمان، والضيق المالى، وسوء المعاملة، والتخلص من المرض، والرسوب فى الامتحان، وأحيانا تقع لأسباب غرامية. أما عن الوسائل التى يلجأ إليها المنتحرون، فأهمها: تعاطى مواد سامة أو كاوية، والسقوط من مرتفعات، الآلات الحادة والأسلحة البيضاء والآلات النارية، الحرق العمد، الغرق، الشنق والخنق، دهس القطار. والنماذج التالية تؤكد ما سبق توضيحه فى السطور القليلة السابقة: شرب تلميذ بإحدى المدارس سما فمات فى الحال بسبب رسوبه فى الامتحان السنوى. شرب أحد مستخدمى مصلحة التلغرافات قدرا من حمض الفينيك، لضيق ذات يده، فتوفى. شنق أحد مستخدمى المجلس البلدى نفسه، نتيجة لتراكم ديونه، والحجز على ممتلكاته. الجدير بالذكر أن حوادث انتحار طلاب المدارس بسبب الرسوب فى الامتحان، لم تكن حوادث فردية أو نادرة الحدوث، بل كانت حوادث متكررة. ففى 1937 أقدم عدد 29 طالبا على الانتحار بسبب رسوبهم فى امتحاناتهم السنوية. وفى 1951 أقدم عدد 17 طالبا على الانتحار لنفس السبب وكلهم فى سن الشباب بواسطة المواد السامة والكاوية والحريق العمد، الأمر الذى يشير إلى أن مشكلات التعليم، و تعثر الطلاب، وإحساسهم بالفشل والظلم والاضطهاد كلها أمور قديمة ذات جذور بعيدة، ربما كبرت وتفاقمت بسبب إهمالها وعدم معالجتها. أما جرائم التعدى على الأخلاق والآداب العامة: وتتمثل فى جرائم التعدى على الأعراض، مثل هتك العرض، والفسق والتغرير، هذا إلى جانب السكر، والقمار، والمخدرات وغيرها. وهذا النوع من الجرائم من أخطر مظاهر الخلل الاجتماعى، ولم يفرق هذا النوع من الجرائم بين المتعلم والجاهل، الطبيب والمهندس، والمدرس والمحامى وكاتب المحكمة، و غيرها من المهن. أما ضحايا هذه الجريمة فكن كالتالى: خادمة بسكن (الجانى)، سيدة مريضة بعيادة الطبيب (الجانى)، صاحبة العقار الذى يسكنه (الجانى)، خطيبة (الجانى). سيدة متزوجة (غريبة عن الجانى)، إحدى موكلات المحامى (الجانى)، فتاة من أقارب (الجانى) كإبنة العم مثلا هذا طبقا للحوادث التى نشرت فى عدد من صحف الفترة وقد ارتبط ارتكاب هذا النوع من الجرائم بالإكراه والعنف كالاعتداء بالضرب، أو إحداث الإصابات، واستخدام الأسلحة النارية.. وغيرها، بينما تم عدد منها بعد التغرير بالضحية، وخداعها، وإغرائها بأى من المغريات. كما أنها تمت فى ظل غياب الأهل، أو مغافلتهم، وخيانة ثقتهم إذ كان محلا لهذه الثقة، باعتباره أحد الأقارب، أو الطبيب المعالج للضحية، كما تم بعض هذه الجرائم بمخالفة قواعد المهنة وشرفها كالطبيب، الذى يعتدى على مريضة بعد تخديرها، أو كالمحامى الذى يعتدى عل سيدة صاحبة قضية (موكلة) بعد خداعها، وإغرائها بقضاء حاجتها لديه. أما فيما يتعلق بتعاطى المخدرات: التى تعد سببا مباشرا فى خلق الجريمة، والتدهور والانحلال الاجتماعى والمهنى والأخلاقى بصفة عامة. وفى النصف الأول من القرن العشرين تورط عدد من المتعلمين (كالأطباء والصيادلة والمحامين) فى إتجار المخدرات، وتسهيل تداولها، وتعاطيها، على الرغم من كونهم من أصحاب أهم المهن الإنسانية السامية، ذات الأهداف النبيلة، كحماية صحة الإنسان والدفاع عن حقوقه. إذ سهل عدد من الصيادلة، والأطباء، وأطباء الأسنان التعامل فى المواد المخدرة المختلفة الحشيش والكوكايين والهيروين.. وغيرها بالتعاطى والإتجار، بين مختلف طبقات المجتمع. وقد اتخذ الأطباء أساليب متنوعة فى الاتجار بالمخدرات منها التبادل الشخصى، أو الطرود البريدية المرسلة للآخرين باسم عينات طبية، أو استخدام طرف وسيط.. إلخ. وقد تعرض معظم هؤلاء الأطباء المروجين والمتعاطين للمخدرات لمحاكمات جنائية، ونالوا عقوبات الحبس والسجن لمدد متفاوتة، كما أقدم عدد من المحامين، والموظفين بالمصالح، والإدارات المختلفة، على نفس العمل واستخدموا منازلهم، ومحال عملهم كأماكن لتخزين المواد المخدرة المختلفة، حتى تمام بيعها أو توزيعها. وخلاصة القول أن الجريمة بمختلف أنواعها كجرائم العنف، واستخدام القوة، جرائم التعدى على الأخلاق والآداب العامة تحدث تحت ضغط الحاجة للمال، التى غالبا ما تحدث خلال الأزمات الاقتصادية والسياسية الكبيرة أو الحروب، الأمر الذى يؤدى إلى سوء الأحوال المعيشية، وضعف الدخول، وعجزها عن الوفاء بالاحتياجات العائلية، هذا إلى جانب فساد أخلاق البعض، وفساد ضمائر البعض الآخر.