تنعقد الآمال حول اقتراب تسليم السلطة إلى القوى المدنية ويبقى الجيش حصنا للبلاد وضمانا للديمقراطية. عرف السودان منذ استقلاله فى أول يناير (كانون الثانى) عام 1956 حكومات تعاقبت عليه وقادة عسكريين ومدنيين تناوبوا مقعد السلطة الأولى فيه ولكن الأمر المؤكد هو أن ذلك البلد العربى الأفريقى الكبير لم يعرف الاستقرار إلا فى فترات استثنائية، فقد داهمته الحروب الأهلية والحركات الانفصالية والحكام المغامرون حتى إن كانوا حسنى النية صادقى العزم. ولمصر علاقة متلازمة بذلك القطر الشقيق فكان البلدان دولة واحدة تحت التاج المصرى وفى حكم أبناء محمد على حتى فاروق الأول، وتفاوتت مواقف الساسة السودانيين تجاه العلاقة مع الشطر الشمالى من وادى النيل فاتسم بعضهم بعلاقة طيبة نسبيا مثلما كان الأمر فى عهد جعفر نميرى أو مضطربة تحيطها شكوك تاريخية وحساسيات موروثة مثلما كان الأمر فى ظل حكم أسرتى المهدى والميرغنى على رغم قصرهما الزمنى، فعرف السودان دورات محدودة من الحكم الديمقراطى ومؤثرة وفاعلة من الحكم العسكرى الذى كان أهم رموزه إبراهيم عبود الذى أسقط بانقلاب 21 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1964 أو جعفر نميرى الذى أطاحه تمرد وطنى فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى تحت وطأة النقابات العامة وجماعات الخريجين. السودان ينفرد عن غيره من دول المنطقة بقدرته على إسقاط النظم من خلال حركات العصيان المدنى، هكذا فعلها السودانيون فى عهد إبراهيم عبود وجعفر نميرى وإلى حد كبير ومع الاستعانة بالجيش فى حالة عمر البشير الذى كان يكن لمصر كراهية دفينة مجهولة الأسباب فيستخدم العلاقات مع القاهرة صعودا وهبوطا فى تحريك الشارع السودانى واستخدامه للنزاع الحدودى فى تأليب الرأى العام ضد مصر ومحاولة كسب شعبية على حساب الدولة الشقيقة، ونحن نتذكر أنه قبل الاستقلال كان الحزب الاتحادى برئاسة إسماعيل الأزهرى يرفع شعار وحدة وادى النيل ويطالب بالاتحاد مع مصر، لكن على ما يبدو أن الصراع بين الضباط الأحرار فى القاهرة ثم إقصاء محمد نجيب رئيس الجمهورية المصرية الذى كان وجها مقبولا لدى الأشقاء فى السودان غير التوجهات وحول موازين القوى إلى الاتجاه نحو الاستقلال بدلا من الانضمام إلى مصر تحت أعلام الثورة التى لم يكن السودانيون مرتاحين لكثير من توجهاتها الجديدة، فتحول الحزب الاتحادى وزعيمه الأزهرى نحو المطالبة بالاستقلال الكامل والانفصال عن الوحدة مع مصر حتى حصلت الخرطوم على استقلال جمهورية السودان فى اليوم الأول من عام 1956 كما ذكرنا. وبسقوط شعار وحدة وادى النيل فعليا تأرجح «بندول» العلاقات بين القاهرةوالخرطوم يمينا ويسارا بل صعودا وهبوطا ووقع البلدان اتفاق مياه النيل الذى مثل مصر فيه السيد زكريا محيى الدين عضو مجلس قيادة الثورة المصرية الذى يحظى باحترام جميع الأطراف، وكان السيد عبدالله خليل هو رئيس وزراء السودان الذى كان يشارك رفاقه الشعور بالحذر فى التعامل مع مصر والرغبة فى استقلال القرار السودانى بعيدا من السياسات الجديدة للزعيم الصاعد جمال عبدالناصر الذى كان يولى وجهه شطر المشرق العربى ويعلن الوحدة مع سوريا بديلا تاريخيا للابتعاد نسبيا عن السودان بعد أن رقص الصاغ صلاح سالم ذات يوم فى إحدى مدن جنوبه إشارة إلى التقارب بين البلدين ورغبة فى مجاملة الأشقاء فى جنوب الوادى. ولا خلاف على أن فترة حكم نميرى هى الفترة التى استقرت فيها العلاقات بين البلدين لأكثر من 15 عاما كاملة وساعد على ذلك وقتها اضطراب العلاقة بين ليبيا القذافى وسودان النميرى على نحو أدى إلى حرص الطرفين على اتباع سياسة أفريقية وعربية خارج جلباب القاهرة، ثم جاءت سنوات حكم البشير فى الخرطوم لتغير صورة مصر لدى الأجيال الجديدة من الشعب السودانى وتنقلها من صورة الشريك فى وحدة وادى النيل إلى صورة الجار الذى يجور على حقوق جاره ولا يتعامل معه بالندية المطلوبة، ووصل الأمر إلى حد اتهام الخرطوم بالضلوع الكامل فى محاولة اغتيال الرئيس الراحل مبارك فى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا عند حضوره للمشاركة فى قمة منظمة الوحدة الأفريقية عام 1995، وحينها تدهورت العلاقات بشكل ملحوظ ونسى الطرفان الدور السودانى القومى المشهود فى أغسطس (آب) عام 1967 أثناء انعقاد القمة العربية فى الخرطوم وخروج الشارع السودانى كله لدعم القائد العربى عبدالناصر فى محاولة لرفع معنويات الشعور القومى والتمرد على أوضاع النكسة، والسودانيون معروفون بأنهم شعب مثقف ومسيس، يقرأ التاريخ جيدا حتى لو أدى ذلك إلى خلط السياسة بالدين أحيانا مثلما كان الأمر مع القوى السياسية التقليدية فى العاصمة المثلثة وأنحاء الدولة السودانية الواسعة حتى كان تقسيم السودان إلى دولتين وميلاد دولة الجنوب على رغم أن جون قرنق كان وحدويا فى أعماقه ويسعى إلى الوصول للسلطة فى سودان ديمقراطى موحد يقوم على التعددية واحترام الآخر، لكن مقتله فى حادثة طائرة كان على ما يبدو جزءا من التمهيد لما جرى بعد ذلك. وأتاحت لى وظيفتى المباشرة مع الرئيس الراحل مبارك أن ألتقى الدكتور قرنق فى أكثر من مناسبة وكان الرجل يتحدث بلغة واقعية وعادلة متسائلا، أليس من حقى كواحد من أبناء الجنوب أن أكون يوما ما رئيسا للسودان الديمقراطى الموحد؟ وكانت الإجابة دائما هى، نعم إن ذلك من حقك ما دامت الإجراءات الديمقراطية السليمة فى ظل المساواة المطلقة بين أبناء السودان الواحد هى التى تظلل طريق الوصول إلى السلطة فى الخرطوم، بل إننى أتذكر أنه طلب من الرئيس مبارك دعم عملية تعليم اللغة العربية فى الجنوب وقال إنه ليس ضد ذلك على الإطلاق على أن تحترم خصوصية المواطن الجنوبى ومعتقداته سواء كان مسلما أو مسيحيا أو ليس دينيا، وبهذه المناسبة أتذكر أن الرئيس السابق عمر البشير طلب منى ومن الوفد الدبلوماسى المصرى المرافق زيارة نائب رئيس الجمهورية السودانية أثناء وجودنا فى الخرطوم لمتابعة أعمال اللجنة المشتركة بين مصر والسودان عام 2000 وقمنا بزيارة السياسى الجنوبى فى داره وكان الرجل متوازنا للغاية وحكيما ومعتدلا، ولأننى كنت معنيا بوحدة السودان وتماسكه فقد سعيت دائما إلى الاطلاع على كل ما يكتب عن ذلك البلد الشقيق واعتمدت كثيرا على كتابات السياسى السودانى المخضرم منصور خالد الذى كان واحدا من أقرب مستشارى قرنق وكان شخصية مضيئة تشع ذكاء وتألقا وقد كان وزيرا لخارجية السودان لفترة محدودة فى عصر جعفر نميرى. خلاصة ما أريد قوله فى هذا الأمر هو إننى أحد الذين صدمتهم عملية تقسيم السودان وكنت أود لذلك البلد الأفريقى الكبير أن يظل موحدا بخيراته الوفيرة وشعبه الطيب شمالا وجنوبا ولكن إرادة السودانيين كانت هى الفيصل فى الأمر، وتظل علاقتنا بجنوب السودان هى علاقة الأشقاء مهما كانت الظروف والتحديات، إن السودان فى مجمله هو همزة الوصل بين العرب وأفريقيا وهو واسطة العقد بين منابع النيل الخالد ومصبه الأزلى، وسوف نتطلع دائما إلى الشعب السودانى باعتباره الشقيق التوءم أفريقيا وعربيا مترقبين المستقبل الواعد لتلك الدولة الثرية بمواردها الطبيعية والبشرية على الدوام. والآن يلح علينا السؤال إلى أين يتجه السودان؟ فأنا متفائل ببعض التصريحات الرسمية التى تتحدث عن قرب تسليم السلطة إلى القوى المدنية حتى يبقى الجيش السودانى حصنا للبلاد وضمانا للديمقراطية وحارسا للشعب الشقيق.