يتمتع العالم العربى بموارد طبيعية وفيرة، خاصة فى مجال الطاقة والمواد الخام، ولديه مساحات شاسعة للزراعة، ويتمتع بموقع جغرافى متميز جعله يؤثر على الاقتصاد العالمى، ومحل اهتمام استراتيجى وأمنى لدول عديدة خاصة للدول الكبرى. ومع هذا، لا يخفى على أحد أن الوضع العربى غير مستقر أو مطمئن، وأن الرؤية المستقبلية له بين شعوبه تتسم بالقلق والتشاؤم الشديد، فى ضوء أحداث تعرض لها منذ منتصف القرن الماضى، أسفرت عن أشكال وأنماط مختلفة من الاضطرابات المجتمعية، والنزاعات العسكرية، بل وانهيار بعض الدول وتفككها، تزامنا للمشاكل تعد فى سابقة لا مثيل لها فى العصر الحديث. وتعرضت المنطقة لعبث أطراف غير عربية فى مصائرنا، من داخل الشرق الأوسط ومن خارجها.، وهناك أسباب داخلية عديدة من داخل الدول العربية لما وصلنا اليه. ونقطة الضعف الأولى ولمدة طويلة كانت رفض عالمنا العربى تقبل التغيير التدريجى فى حياته الطبيعية، اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، فى حين أن التغيير سمة حتمية من سمات الحياة، ويحدث بمعدلات أسرع فى العالم المعاصر، نتيجة للطفرة فى مجال الاتصالات، كما أن المطالبة بالتغيير والتطوير بمعدلات سريعة هى سمة من السمات الخاصة بالشباب، الذين يمثلون غالبية تصل إلى 65٪ من شعوبنا. وللأسف نجد أن متوسط نصيب الفرد من الدخل فى المنطقة العربية طبقا لإحصائيات البنك الدولى أصبح أدنى من منطقة شرق آسيا والمحيط الهادى ومنطقة أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبى فى عام 2015، وذلك رغم أن المنطقة العربية كانت تسجل مستويات أعلى منها حتى منتصف ثمانينيات القرن الماضى، وطبقا لإحصائيات برنامج الأممالمتحدة الإنمائى لعام 2017، سجلت المنطقة العربية معدلات أدنى فى مؤشر التنمية البشرية عن كل من أوروبا ووسط وشرق آسيا وإجمالى العالم، عدا جنوب آسيا ومنطقة الصحراء الكبرى فى أفريقيا. وعارض العرب أو معظمهم التغييرات التدريجية، لذلك تعرضوا للتغيرات الطارئة المضطربة، والمصحوبة أحيانا بالعنف وتفكك الدول، وخاصة بالنسبة للدول العربية العريقة والقديمة، بينما جاءت الصدمة أخف بين الدول العربية الأكثر شبابا عمرا أو قيادة، وأولئك الذين تبنوا مبدأ التغيير ولو جزئيا، أو على الأقل تجنبوا معارضته فى كل المجالات. أما نقطة الضعف الثانية فهى فى ضعف قدراتنا الذاتية الوطنية فى مجال الأمن القومى مقارنة بجيراننا مثل إيران، أو من خارج المنطقة مباشرة مثل تركيا، ناهيكم عن القدرات الإسرائيلية، واعتمادنا جميعا تاريخيا بدرجات مختلفة على الأصدقاء الأجانب لتأميننا، وعلى مدى عقود طويلة من الزمن، مما جعل اغلبنا نتكاسل عن التطوير المستمر لقدراتنا الأمنية الذاتية، مما خلق خللا فى التوازن الأمنى والسياسى مع دول إقليمية أخرى مجاورة لنا، وقد يكون الاستثناء عن ذلك دول المواجهة. المشكلة ليست فى وجود علاقات أمنية استراتيجية فى المنطقة، أو حتى تحالفات مع دول كبرى لدعم تأمين مصالحنا والحفاظ على سيادتنا، خاصة إزاء مواجهة الأزمات الكبرى، وإنما فى الاعتماد على ذلك على حساب تطوير قدراتنا الوطنية، فإسرائيل وتركيا دعما قدراتهما الوطنية والأمنية والسياسية فى مجال الأمن الوطنى، مع الاحتفاظ بعلاقات أمنية وتحالفات رسمية مع الحلف الأطلنطى والولايات المتحدة والغرب، مما أتاح لهما الاستفادة من هذه التحالفات، وبناء قدرات ذاتية مع الاحتفاظ باستقلالية قراراتهما الوطنية إلى حد كبير، وخلق توازن أمنى لصالحهم مقارنة بالعديد من جيرانهم. يجب أن يستفيد العرب من تجارب جيرانهم، وحتى من أعدائهم، من خلال الحفاظ على علاقات أمنية وسياسية قوية مع الأصدقاء من القوى العظمى، لدعم مصالحهم وأمنهم عندما تتوافق المصالح والأولويات، مع تطوير قدراتنا الأمنية الوطنية فى مواجهة الأزمات والتحديات التقليدية المحدودة وكبح وردع أى أطماع غير مشروعة من جيرانهم. ورغم تشاؤم البعض من الوضع العربى، أعتقد أيضا أن هناك بعض البوادر للتغيير الإيجابى فى الحال العربى، وأهمها ما نشهده من بنية أساسية وتركيز على الشباب، خاصة فى مصر والسعودية والإمارات، ونشهد بوادر تغيير فى المنظومة الاجتماعية الراسخة، وعدم الاعتماد فقط على اقتصاديات الموارد الطبيعية والسعى للتطور التكنولوجى، والتمسك بتأمين الهوية الوطنية، مع احترام خصائص الطوائف المختلفة للشعوب، وأتمنى أن تتواصل الجهود وترسخ تحقيقا للطموحات، فالمشوار لا يزال أمامه طريق ممتد ليصل إلى المستوى المطلوب. ونشهد أيضا تركيزا جديدا على تطوير القدرات الذاتية الأمنية، وقناعة بضرورة أخذ زمام المبادرة فى توفير الأمن وطنيا، من خلال تطوير القدرات العسكرية الذاتية، وكانت هناك الدعوة المصرية السابقة لبلورة قوة عربية للتدخل السريع، وأتمنى أن تنجح الدول العربية فى التغلب على تباين مواقفهم فى هذا الصدد، فهذه الأفكار أفضل بكثير من المقترح الأمريكى خلال ولاية ترامب، وهو تشكيل قوة إقليمية تحت رعاية أمريكية، هدفها الوحيد مواجهة إيران، أو ما تسرب أخيرا قبل جولة بيدن عن تشكيل ناتو شرق أوسطى. وفى هذا السياق، يجدر التنويه أيضا أن حماية الأمن القومى والوطنى لدولنا العربية ليس من خلال تطوير قدراتنا العسكرية فقط، رغم أهمية بل ضرورة ذلك، وإنما يشمل بأولوية متقدمة تنشيط العمل الدبلوماسى العربى، وغياب المبادرة الدبلوماسية العربية فى حل المنازعات الإقليمية القائمة هو أمر غير مفهوم، وعلينا طرح الأفكار والبدائل السياسية لمشاكل المنطقة حتى تؤخذ المصالح العربية فى الاعتبار، خاصة ونشهد نشاطا تركيا واسعا فى المشرق والآن فى شمال افريقيا، وسيل من الطروحات الإيرانية فى الخليج، تجعلهما مركزا للحوار والاهتمام، من ضمنها أخيرا دعوة لحوار شرق أوسطى عربى وغير عربى، وهى فكرة أؤيدها من حيث المبدأ وإنما كنت أفضل أن تصدر من إحدى الدول العربية الرئيسية مثل مصر أو السعودية، لبلورتها بشكل ايجابى، ولكى توفر لها المصداقية المطلوبة وإلا توظف فقط لتخفيف الضغط السياسى أو تحقيق مصالحهم دون حل النزاعات القائمة. كل هذه الأمور وغيرها يجب أن تكون محل نقاش وبحث خلال قمة الجزائر فى بداية نوفمبر، حيث لا تقصر الجلسات على خطب عامة وتسجيل المواقف، بل أدعو أن يصدر عن القمة تكليف واضح بإعداد تصور أو تصورات عربية عن مستقبل الشرق الأوسط سياسيا، اجتماعيا، اقتصاديا وأمنيا، تأمينا لشبابنا وتحصينا لمستقبلهم.